كتبه/ غريب أبو الحسن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد جاءني مَن يشكو مِن انفصاله عمَّن يحب قبل أن يتم الزواج، ويشكو من شدة تعلقه به، وقد أصبح الرجوع مستحيلًا والوصول محالًا، والواقع مريرًا، ولهيب الذكرى لا يكف عن لفحه، وألم الفقد أنساه طعم السعادة!
مرَّت شهور -وربما سنوات- وهو على هذه الحال؛ لم يتجاوز ألم فقده، ولا زال متعلقًا بأمل الرجوع، وكأنه كُبِّل بحبل في ماضيه، فيهمل حاضره، ولا يرى مستقبله!
وكأنه قد وقع في حفرة زمنية، جمَّدت حياته عند لحظة معينة لا يفكر إلا بها، يترك نفسه للذكريات فتزيد من عمق الحفرة، فيصعب خروجه منها.
فقلتُ له: أتدري لماذا لا ننسى؟!
فنظر إلي بعينين ذابلتين ولم يحر جوابًا!
فقلتُ له:
- لا ننسى؛ لأننا لا زال عندنا الأمل في الرجوع.
- لأننا لا زلنا نتعلق بحبال الأمل المهترئة، ونظن أنها حبال النجاة.
- لأننا لا زلنا نترك خيالنا يرسم لنا أنه ستحدث مفاجآت تعيد المياه إلى مجاريها؛ لأننا لا نبصر أن النهر قد جف، فمِن أين يأتي الماء لجدولنا الصغير؟!
- لا ننسى؛ لأننا نعتقد الطرف الآخر هو أيضًا لم ينسَ! فنجهز كلمات العتاب، وندخر قصصنا اليومية لنقصها عليه عند رجوعه، بينما لا ندرك أنه تجاوزنا مِن زمن، وأنه استبدلنا بغيرنا؛ يمرح ويلهو وتملأ ضحكاته الأرجاء.
- لا ننسى؛ لأننا لم نتخذ قرار النسيان، نردد قرار النسيان بألسنتنا لنسكت ونتحايل على قلوبنا، ونهرب من صرخات قلب متألم يود الخلاص.
- لا ننسى؛ لأننا لا زلنا نراقب من بعيد، ونتلمس الأنباء والأخبار، ونسأل الركبان والعابرين عمن فقدنا، ونأمل أن تأتي منهم إشارة أنهم لم ينسونا! ولن تأتي.
- لا ننسى؛ لأننا نقلب في رسائلنا القديمة ونمر بأطلال الذكريات كل حين، بل نزور أطلال الذكريات عامدين ونبكي عليها؛ فأنى يأتينا النسيان؟!
- لا ننسى؛ لأننا لا زلنا نظن أن لنا قدرًا عند مَن أحببنا يومًا، ونعتقد أن الناس تملك قلوبًا مثل قلوبنا؛ إذا أحبت لا تنسى.
- لا ننسى؛ لأننا نحب بصعوبة ونختار بصعوبة، ولا نفتح قلوبنا إلا لمَن وضعنا ثقتنا فيه، ولمن ظنناه يشبه قلوبنا؛ ولأن قلوبنا يفتح بابها بصعوبة، فإذا أدخلنا أحدًا لقلوبنا، فإخراجه أصعب من إدخاله بكثير.
- لا ننسى؛ لأننا قليلو الخبرة، وسذج القلوب؛ لم نعتد أن تكون العلاقات في حياتنا عابرة وسريعة، نستبدلها كما نستبدل الثياب.
- لا ننسى؛ لأننا لا نريد أن ننسى؛ ولأننا نخاف أن ننسى فنخسر ذكراهم كما خسرنا أعيانهم، فقد صارت ذكراهم كل ما تبقى لنا فنتشبث بها! فنبقى عالقين متألمين آملين في تحقق المستحيل، فنهمل مصالحنا ونهمل أعمالنا، ونهمل أنفسنا، ونهمل حتى باقي علاقاتنا؛ فيزداد الأمر صعوبة، فبلاء القلب يتبعه بلاء البدن، وبلاء التعثر في حياتنا!
- فالنسيان هنا أمر لازم وقنطرة لا بد من عبورها لتتجاوز أزمتك وتعود لحياتك الطبيعية، ولتستشرف مستقبلك القادم.
ولكن كيف ننسى؟!
هذا ما نتناوله في المقال القادم -بإذن الله-.