الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 09 فبراير 2023 - 18 رجب 1444هـ

(فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ) (1)

كتبه/ أشرف الشريف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

صورة رعيبة، ومشهد مفزع، وبلاغة آسرة: 

قال الله -تعالى-: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج: 31). وحُنَفَاءَ لِلَّهِ: جَمْعُ حَنِيفٍ، وَهُوَ: الْمُخْلِصُ لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، المائل عن الشرك، والمعنى: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، مُنْحَرِفِينَ عَنِ الْبَاطِلِ قَصْدًا إِلَى الْحَقِّ؛ وَلِذَلِكَ زَادَ مَعْنَى حُنَفاءَ بَيَانًا بِقَوْلِهِ: (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) أَيْ: تَكُونُوا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَقًّا، موحدين لله -تعالى- في ذاته وصفاته، وعباداته، مائلين عن كل الأديان إلى دينه الإسلام، غير مشركين به في أي شيء من الشرك أو الشركاء. 

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) لِلْمُصَاحَبَةِ وَالْمَعِيَّةِ، أَيْ: غَيْرَ مُشْرِكِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ؛ لأن أعظم ذنب هو الشرك بالله -عز وجل- فهو الذنب الذي لا يغفره الله -تعالى- إن مات صاحبه عليه، لذا كثرت الآيات التي تُحذر منه وتبين سوء عاقبته، وتحرم الخطوات التي قد تؤدي إليه، أو تعكر صفو التوحيد أو تصيبه بشائبة أو شبهة، حتى وإن كان الإنسان لا يقصد، ومع عدم القصد وعدم وجود النية في الشرك؛ سَمَّى الإسلام العمل أو القول شركًا أصغر إن كان صاحبه لا يقصد، وشركًا أكبر إن كان صاحبه يقصد المعنى: كالرَّجُل الذي جاء للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال له -وهو لا يقصد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- شريكًا لله-: (مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ عَدْلًا؟ بَلْ ما شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)؛ ليتبيَّن لنا أن المنع الشرعي من بعض الألفاظ إنما يكون لما تحمله من معاني باطلة ومنكرة حتى وإن حملت معنى حسنًا. 

ومن الآيات الجليلة التي بيَّنت عاقبة الشرك: هذه الآية المجيدة، محل الدراسة هنا، والشرك هنا يشمل جميع أنواع الشرك؛ لا سيما الشرك في توحيد الألوهية وصرف شيء من العبادات لغير الله -عز وجل-، حتى وإن كان صارف العبادة لغير الله لا يعتقد الربوبية فيمن صرف له شيء من العبادة، فإن أهل مكة وغيرهم كانوا يصرفون عبادة الدعاء، والاستغاثة، والذبح للأصنام التي هي صور للعباد الصالحين الذين اتخذوهم واسطة بينهم وبين الله أو كوسيلة كما يحاول بعض المعاصرين تزييف الحقيقة، ويسمي الاستغاثة توسلًا! وأهل مكة على حالتهم تلك لم يعتقدوا في تلك الأصنام الربوبية، فلم يعتقدوا أنها هي التي خلقتهم، أو هي التي ترزقهم، ومع ذلك سمَّى الله فعلهم واستغاثتهم بها ونداءهم لها من دون الله: شركًا، وسمَّى قولهم كفرًا، ووصفهم بالكذب في دعوى عبادتهم لله؛ لأنهم وإن أرادوا الله، لكنهم اتخذوا إليه وسيلة -هي في الحقيقة واسطة- لم يأذن بها الله، وتوجهوا إلى غير الله بالنداء والاستغاثة صراحة، ثم هم يزعمون أنهم يقصدون الله! قال الله -تبارك وتعالى-: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) (الزمر: 3)، وهذا شرك محبط للعمل، وعاقبته وخيمة. 

وللحديث بقية إن شاء الله.