الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 05 يناير 2023 - 12 جمادى الثانية 1444هـ

التراث والتجديد من منظور السلفية (2)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فيتفق غالبية مفكري الأمة على ضرورة الرجوع إلى تراث الأمة والاستفادة منه، ولكنهم يختلفون في المنهج الذي يتعاملون به في دراسة هذا التراث؛ كل بحسب منهجه المعرفي الذي يسلكه، وتوجهه الأيديولوجي الذي يأخذ به.

ولا يقتصر التعامل مع التراث على نشر كنوزه المدفونة في مخطوطاته القديمة في المكتبات المنتشرة حول العالم، وهو ما يتولاه في الواقع قلة مِن القادرين من الناحية العلمية على تحقيق ونشر هذه المخطوطات، ولكن الأمر يحتاج إلى جهدٍ أكبر يتمثَّل في التفسير والدراسة التحليلية لنقل هذا التراث من عصره الذي كُتِب فيه، وتشكَّل حسب ظروفه إلى عصرنا؛ ليكون في خدمة مطالب العصر الحاضر. 

وتركِّز غالب دعوات إحياء التراث وبعثه على مجال نشر المخطوطات الموجودة قبل تعرضها للضياع أو التلف، وتهتم بتصنيف وتقييم تلك المخطوطات حسب فنونها، مع توجيه الباحثين والدارسين المتخصصين لجمع نسخ هذه المصنفات وتحقيقها والكتابة عنها.

وهذه الخطوة لا تعدو أن تكون وسيلة إلى غاية أكبر، وهي الوصول إلى قيمة هذا التراث في واقعنا المعاصر، وإن كان انتقاء ما يُرَاد بعثه وإحيائه وترك غيره لا تخلو من نظرة نقدية لمخطوطات التراث. 

ولا شك أن للتراث الإسلامي والعربي الذي قاد وساد الحضارة البشرية لقرونٍ طويلةٍ آثارًا إيجابية لا تقف عند حدوده الزمنية التي كُتِب فيها، بل تمتد إلى العصور اللاحقة، كما أنه لا يخلو أيضًا من آثار سلبية، وهذا عام في كلِّ التراث البشري دون تمييز، وهذا يوجب التفاعل الجاد مع التراث -أي: تراث- من أجل الاستفادة من جوانبه الإيجابية واتقاء جوانبه السلبية، بعيدًا عن تجاهل وإلغاء ورفض الكل، وبدون الاندفاع في أخذ الكل بلا وعي وبصيرة، والمدخل لهذا الانفتاح المنضبط على التراث هو صحة وسلامة المنهج، والمرجعية المعيارية في التعامل مع التراث والحكم عليه. 

السلفية والتراث: 

(إن الإنسان خاصة في مجال الدراسات المتعلقة بالإنسان نفسه مِن حيث هو إنسان لا ينفك عن مرجعية تظل حاضرة فيه مؤثرة في تصوراته للأشياء وحكمه عليها). والسلفية منهج له مرجعية يستند عليها، فالقراءة السلفية للتراث والتعامل السلفي مع التراث مستمد حتمًا من هذه المرجعية السلفية. 

فـ(السلفية: هي الوحي الإلهي -القرآن الكريم والسنة المطهرة- من خلال تجليها في سيرة وهدي الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه رضي الله عنهم فهمًا وعملًا، ثم مَن جاء بعدهم بالتبعية لهم، أي: لأخذه بفهمهم وعملهم). 

يقول ابن تيمية رحمه الله: (فالعلم المشروع والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأما مَن جاء بعدهم؛ فلا ينبغي أن يجعل أصلًا، وإن كان صاحبه معذورًا، بل مأجورًا لاجتهاد أو تقليد) (مجموع الفتاوي 10/ 362، وراجع: السلفية وقضايا العصر، تأليف د. عبد الرحمن بن زيد الزنيدي - ط. مركز الدراسات والإعلام دار أشبيليا - الرياض - ط. أولى 1418 هجريا - 1998م، 342، 344)

والسلفية تقدِّم مرجعيتها تلك على أنها تمثِّل الوسيلة الناجحة الموضوعية في دراسة التراث، وأنها كفيلة إن اتخذها الإنسان مرجعية له أن يستثمر منجزات الحاضر وإيجابيات التراث الماضي، وهذه المرجعية تختلف اختلافًا جذريًّا عن المرجعيات الأخرى، ولا يمكن أن تفهم إذا أدرجت ضمن الأيديولوجيات الأخرى كالليبرالية أو الماركسية أو غيرها (راجع المصدر السابق، ص 344 - 345).

(تتمثَّل هذه الجذرية في الاختلاف في كونها مرجعية (لا زمنية في سلطان أحكامها)، أي: ليست نتاج واقع ظرفي؛ سواء كان قديمًا أو حاضرًا، وهذه المرجعية هي -كما أسلفنا-: (الوحي الإلهي بمقرراته التي تمثِّل الحقيقة في القرآن والسنة الثابتة، والإجماع كدليل كاشف)، وهذا لا يعني أن المرجعيات الأخرى أيًّا كانت لا تشتمل على عناصر موضوعية معرفية وأيديولوجية، كلا، إن كل مرجعية تشتمل على بعض من هذه العناصر، والتراث ذاته يشتمل على هذه العناصر، لكن الأمر هنا هو أمر تعالٍ وأكملية: 

- هل التراث هو الأولى بأن يهيمن على الواقع؛ لأنه يشتمل من العناصر الموضوعية معرفية وأيديولوجية على قَدْر أوفر وأوثق مما لدى عصرنا الذي اغترب فيه الإنسان حتى تاه عن حقيقة وجوده، كما يمكن أن يقول التراثيون؟ 

- أو أن الأمر بعكس ذلك: أن العصر بتوسعه المعرفي وتقدمه المتنوع أولى أن يخضع له التراث، مقدمًا بقاياه التي يحكم هذا العصر بنفعها وصلاحيتها، كما يمكن أن يطرحه المقابلون للأولين؟

في السلفية: الوحي بمقرراته فوق العصر والتراث معًا، بما فيهما من عناصر إيجابية، فالسلفية تنظر إلى موضوعها التراثي بعينين لا عين واحدة:

- عين الحقائق المستمدة من مرجعيتها الكتاب والسنة. 

- وعين يحكمها البُعد التاريخي المدروس ولحاضر دارس التراث) (المصدر السابق، ص 345- 346 بتصرفٍ).

 وفي السلفية: (فإن الوحي على الرغم من اللا زمنية في مبادئه وأحكامه؛ إلا أنه ليس مستحيل التطبيق؛ أي: ليس أحكامًا كاليوتوبيات التي تصوغها خيالات الفلاسفة؛ بل إنه واقعي، قابل للفهم والتطبيق في الحياة البشرية) (المصدر السابق، ص 347، بتصرف).

وفي السلفية: الفهم البشري للوحي مجرد من تحكم الأيديولوجيات البشرية بالنصوص، فالسلفية تقدِّم الحل متمثلًا بفهم السلف الصالح؛ صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، بصفته الفهم الأمثل لهذا الوحي الذي قام عليه التطبيق الأول للإسلام، الذي يستحق أن يكون النموذج المحتذى لمَن بعدهم لأسبابٍ كثيرةٍ، مِن أبرزها: 

- فصاحتهم اللغوية: حيث كانوا على مستوى خطاب الوحي من حيث الفهم؛ لأن الوحي نزل بلغتهم التي كانت في قمتها البيانية وقت البعثة. 

 - منهجهم الفطري في البحث والفهم والتلقي؛ حيث كانت فطرتهم حية لم تلوثها الفلسفات ولاهوتيات الأديان المحرَّفة التي تمثل مسبقات فكرية تحكم حركة عقل صاحبها وفهمه؛ ما حدث لكثيرٍ ممَّن تلاهم.

- أنهم كانوا أقرب الناس للرسول -صلى الله عليه وسلم- زمانًا ومكانًا، حيث كانت تتشكل تصوراتهم وحياتهم تحت توجيه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكانوا يعيشون تلقيه للوحي وبيانه لهم، وتطبيقه في واقع حياته.

- أنهم بحكم فطرتهم وفهمهم الأصيل للدِّين ضبطوا موقع العقل البشري في دائرة الدين؛ أي: في علاقته مع الوحي الإلهي، دون إلغاء للعقل، ولا تطاول به على النصوص.

- إن الوحي ذاته زكَّى تراثهم، وجعله نموذج التطبيق الصحيح للفهم السليم للإسلام في بيانه -صلى الله عليه وسلم- أن الفرقة الناجية من الانحراف عن الدين، ومِن ثَمَّ مِن استحقاق النار، هي (مَا ‌أَنَا ‌عَلَيْهِ ‌وَأَصْحَابِي) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، ووجَّه -صلى الله عليه وسلم- المسلمين للتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعده (راجع المصدر السابق، ص 348). وفي تزكية معتقد الصحابة وأصولهم الإيمانية؛ قال -سبحانه وتعالى-: (‌فَإِنْ ‌آمَنُوا ‌بِمِثْلِ ‌مَا ‌آمَنْتُمْ ‌بِهِ ‌فَقَدِ ‌اهْتَدَوْا) (البقرة:137).

(وهذه المرجعية المتمثِّلة بالوحي قرآنًا وسنة، وبفهم السلف من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتطبيقهم، تنطوي على المعالم المنهجية لحركة العقل في دراسته للتراث ونقده إياه، وهي المنهجية التي أبرزها العلماء المسلمون ابتداءً من الشافعي في (الرسالة) وحتى ابن تيمية في (الرد على المنطقيين)، وغيرهما مِن العلماء). 

وليس المراد بالمنهجية السلفية هنا منهج استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية المعروف بأصول الفقه، وإنما المقصود: (ما هو أعم من ذلك مما يتعلَّق بإثبات القضايا وتصحيح النقول، وما يضبط حركة العقل وينظمها في مسلك منتج في أي ميدان سلكه، وتشمل هذه المنهجية تحديد مصادر المعرفة ومراتبها، والمسالك العقلية السليمة، والتفسير الإسلامي للوجود بعالميه: الغيب والشهادة، وغيرها من ضوابط الفكر في الإسلام، مع أن هذا لا يمنع أن يستثمر المسلم ما يستجد مِن الطرائق المنهجية - مما لا يعارض أدلة الوحي ومناهج الاستدلال المتفق عليها عند أهل السنة - التي يستطيع بها أن يحقق إدراكًا أوضح وأوثق لموضوعاته، وإمكانًا أكبر لصحة الحكم عليها) (المصدر السابق، ص 348 بتصرفٍ).  

من معالم المنهجية السلفية في دراسة التراث:

1- الانطلاق من منظور ديني(إسلامي): 

السلفية تنطلق (في قراءتها للتراث من منظور ديني يجعل العامل الروحي (الإيمان والعقيدة) المحرك الأساسي للتاريخ، والفاعل الأكبر في التراث، وبما أن هذا الدِّين منحدر إلينا من الماضي؛ أي: أنه جزء من التراث، فإن قراءة السلفية للتراث فهم تراثي للتراث).    

أما في الفكر الليبرالي: فإنه ينظر إلى التراث العربي الإسلامي من الحاضر الذي يحياه حاضر الغرب الأوروبي (فيقرأه قراءة أوروبية النزعة)، أي: ينظر إلى التراث من مرجعية أوروبية؛ ولذا لا يرى فيه إلا ما يراه الأوروبي؛ فهي إذًا قراءة استشراقية) أما في الفكر اليساري (الماركسيون العرب): فينطلق (من المادية الجدلية (كأيديولوجية) قائمة يريدون أن يفرضوا على التراث الإسلامي قضاياها، فالتراث الإسلامي يجب أن يكون انعكاسًا للصراع الطبقي من جهة، وميدانًا للصراع بين المادية والمثالية من جهة أخرى، ويكون دور القراءة الماركسية هو: تعيين لأطراف وتحديد المواقع، وإذا استعصى عليه ذلك تذرع بصعوبة التحليل أمام هذا التعقيد البالغ الذي تتصف به أحداث التاريخ العربي) (راجع المصدر السابق، ص 330).    

2- الشمولية:

الانتقائية خاصية من الخصائص المشتركة بين الدارسين للتراث في العصر الحاضر؛ نتيجة لضخامة وكثافة التراث العربي الإسلامي من جهة، ولتشعب الوجهات التي حملها التاريخ حتى يبدو التراث معها كأنه ممتلئ بالمتناقضات من جهة أخرى، ولكون التراث جهد بشري تراكمي يقوم على استيعاب الصور السابقة وتطويرها من جهة، ولاختلاف اتجاهات المفكرين في العصر الحاضر من جهة؛ لذا صار منهج الانتقاء والاختيار سمة لعامة الدراسات المتعلقة بالتراث بعثًا ونشرًا، أو قراءة ونقدًا (راجع المصدر السابق، ص 332، ص 354)

 ويتبدى الانتقاء في صورتين: 

الأولى: تتمثل في أحد منهجين: 

أ- إما منهج إبراز الجوانب المشرقة -حسب رؤية الدارس- من خلال المنتجات الفكرية والتطبيقات العملية إبداعًا علميًّا، أو قيمًا سامية، أو رقيًّا حضاريًّا.

ب- أو منهج إبراز الجوانب السلبية -حسب رؤية الدارس أيضًا- في تصورات الناس ومواقفهم، وكشف آثارها على الحياة والحضارة؛ سواء كانت معرفية أو اجتماعية أو غير ذلك (المصدر السابق، ص 332).

ولا شك أن التباين سيحدث بين الدارسين هنا؛ مما يجعل التناقض في الأحكام بينهما قائمًا؛ فهذا (انتقاء تحكمي يمارسه الشخص من أجل أن يثبت وجهة نظر يعتمدها، أو يبرر به رغبة ذاتية لديه، فيأخذ من التراث ما يوافق هذه الرغبة ويهمل ما سواه أو يهمشه؛ بحيث لا يبدو على ما مستوى ما أبرزه) (المصدر السابق، ص 354)

الثانية: يتجه فيها الانتقاء إلى لون أو ألوان محددة من التراث تخدم غرضًا محددًا أو تلبي حاجة قائمة.

- فهناك مَن يتجه إلى تراث الفلاسفة لاستلهام القِيَم الإنسانية والاجتماعية من فلسفاتهم.

- وهناك مَن يرى أن التراث الذي يستحق البعث لكي يكون عماد النهضة للمسلمين هو العلوم الفقهية والأصولية، بصفتها العلوم الإسلامية الخالصة.  

- وكثير من المستشرقين ومثلهم كثير من الباطنيين والوجوديين اهتموا بإحياء تراث الصوفية والاتجاهات المنحرفة عن الإسلام، وهناك مَن حوَّل الاهتمام بالتراث إلى أدنى صوره المتمثلة بأزياء الملابس، والأثاث والمساكن، ونحوها مما يسمَّى (فلكلورًا)؛ إما تأثرًا بالاهتمام الغربي بهذه الأمور، أو لصرف الهمة عن التراث الحقيقي في جوانبه الدينية والثقافية والحضارية التي تتشكل من خلالها شخصية الأمة (راجع المصدر السابق، ص 332 - 333).

والسلفية بحكم مرجعيتها -الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح- التي تمثِّل الأقوى علميًّا وإيمانيًّا لدى المسلمين لا حاجة بها إلى هذه الصورة من الانتقاء؛ إذ كشف حقائق الرؤى التراثية المناقضة لمقررات الوحي كافٍ في إسقاطها بهذا التناقض معه موضوعيًّا في الميدان العلمي، ونفسيًّا في ميدان الإيمان لدى عموم المسلمين (راجع المصدر السابق، ص 355)

أما عدم اهتمام السلفيين بالتراث الفلسفي (لأنهم يرون أن هذه الفلسفة بتجاوزها بالعقل نصوص الوحي تمثِّل نقيضًا للسلفية)، و(أن الفلسفة بهذا التجاوز كانت نكبة حضارية وفسادًا في الدين).

وهذا لا ينافي أن المنهج السلفي بمرجعيته السلفية يمتاز بالشمولية في التعامل مع أي تراث كان، فالسلفية لا تقف في قراءتها للتراث عند مرحلة زمنية من التاريخ لا تتعداها -كما قد يصورها البعض-، ولا هي قاصرة على التراث الإسلامي متنكرة لتراث الأمم الأخرى- كما قد يصورها البعض-، فالسلفية بحكم منهجها المعرفي الذي يستوعب مجالات العلم المختلفة دينية وكونية وإنسانية، وبحكم رسالتها التقويمية للحياة البشرية تمتد بقراءتها لكلِّ زوايا التاريخ.  

 (يقول ابن تيمية وهو يقوم بفرز معياري للتراث في عصره جاعلًا الوحي أصلًا ثم مقسمًا المعارف الأخرى: (الحق الذي لا باطل فيه هو ما جاءت به الرسل عن الله، ويعرف بالكتاب والسنة والإجماع، وهو مبني على أصلين: 

أحدهما: أن هذا جاء به الرسول.

والثاني: أن ما جاء به الرسول يجب اتباعه.

الأولى مقدمة علمية مبناها على العلم بالإسناد والعلم بالمتن؛ وذلك لأهل العلم بالكتاب والإجماع لفظًا ومعنى، وإسنادًا ومتنًا. 

والثانية إيمانية وضدها الكفر والنفاق. 

وما وراء ذلك قسمان: 

الأول: ما أثر عن الأنبياء السابقين مما بأيدي المسلمين وأيدي أهل الكتاب كالإسرائيليات، وقد لبس حقه بباطله، فهو يسمع ويروي إذا علمنا موافقته لما علمناه؛ لأنه مُؤنِس مؤكَّد وقد علم أنه حق، وأما إثبات حكم بمجرده، فلا يجوز اتفاقًا.

الثاني: ما يروى عن الأوائل من الفلاسفة ونحوهم، وما يلقى في قلوب المسلمين يقظة ومنامًا، وما دلت عليه الأقيسة الأصلية أو الفرعية، وما قاله الأكابر من هذه الأمة؛ علماؤها وقراؤها، فهذا فيه الحق والباطل؛ لا يرد كله ولا يقبل كله، بل يقبل منه ما وافق الحق، ويرد منه ما كان باطلًا، والأقيسة العقلية الأصلية والفرعية الشرعية هي من هذا الباب؛ ليست كلها صحيحة، ولا كلها فاسدة) (راجع: مجموع الفتاوى 19/ 5-8 بتصرفٍ)

قال د. عبد الرحمن بن زيد الزنيدي: (ولقد قام الإمام ابن تيمية بدراسات نقدية مطولة ومتنوعة للتراث البشري الذي التقى في الحضارة الإسلامية وتنامى حتى وصل إلى عصر ابن تيمية؛ سواء كان من تراث الأديان السابقة أو من الفكر الفلسفي، أو مما تولد لدى المسلمين من علوم تتفاوت بحسب مستمدها والمؤثرات التي أحاطت بها. وهكذا كل مجدد سلفي تقتضي حركته التجديدية نقد التراث وتحديد القيمة الحقيقية لعناصره المعرفية ورؤاه الأيديولوجية من خلال المرجعية السلفية الكتاب والسنة (راجع: السلفية وقضايا العصر، ص 350)

3- مراعاة الواقع (الواقعية):

  تنظر السلفية إلى التراث بعينين:

- عين الحقائق المستمدة من مرجعيتها القرآن والسنة. 

- عين تنظر إلى الأشياء من خلال الإطارات الزمنية والظرفية التي تحكمها. 

ولهذا كان من شروط المجتهد بإزاء فقه الشريعة، فقه الواقع الذي سينزل عليه الحكم؛ وعليه كان من القواعد المشهورة لدى السلف: (تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال، والنيات والعوائد) (راجع في ذلك: إعلام الموقعين لابن القيم، 3 /3)

ولنظر هذه العين الثانية زاويتان:

1- الزاوية الأولى: زاوية الظرف التاريخي الذي تمت فيه الواقعة التراثية؛ سواء كانت فكرة مصاغة أو واقعًا تطبيقيًّا. 

ومن أهم وسائل تسديد النظر في هذا المجال: التبصر بالمصطلحات؛ فمع أن الوحي حاكم على أفكار الناس وسلوكهم، وله مصطلحاته التي تمثِّل الأصل؛ إلا أنه لا ينبغي في دراستنا للتراث المبادرة إلى حمل الألفاظ التي استخدمها أصحابه على المصطلح الشرعي ومحاكمتهم من خلالها، بل لا بد -كما يقول ابن تيمية- من شيئين: 

أحدهما: معرفة معاني الكتاب والسنة. 

والثاني: معرفة معاني الألفاظ التي ينطق بها هؤلاء المختلفون، حتى يحسن أن ينطبق بين معاني التنزيل ومعاني هؤلاء، ليكون الحكم على المعاني لا على مجرد الألفاظ) (راجع: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 1/ 75)

ومن وسائله: معرفة الظروف التي نشأ فيها التراث وتبلور، ومعرفة الأصول التي استمد منها، والآثار التي نتجت عنه، ونحو ذلك.

وإذا تم تحديد الوضعية التراثية أمكن الحكم عليها شرعًا من خلال تلك الوضعية -أي: الظروف الزمانية والمكانية التي تمت فيها- وشخصية صاحبها، لا من خلال صورتها المطلقة، ولا من خلال وضعية كوضعية قارئ التراث. 

2- الزاوية الثانية: هي واقع الشخص الدارس للتراث، فلا يفرض من المنجزات التراثية على واقعه شيئًا قبل أن يتبصر في هذا الواقع، من حيث قابليته وحاجته لهذا المنجز، حتى ولو كانت بالمعيار الشرعي مشروعة في ظرفيتها التاريخية السابقة؛ إذ قد يجد في الواقع ما ينفي شرعيتها إما بتغير الحكم فيها أو بتجاوز الحضارة الإنسانية لها (انظر في ذلك المصدر السابق، ص 352 - 353).

(مثلًا: ابن خلدون والعلماء في العصور السابقة أنكروا الكيمياء وعدوها مثل الفلسفة الإلهية في فسادها، وإذا تبصرنا بها وجدنا أن هذه الكيمياء تتمثل في أساليب سحرية خرافية يزعم أصحابها أنه بإمكانها تحويل المعادن الوضيعة إلى معادن نفيسة كأن يحولوا التراب ذهبًا، ولا ريب أن حكمها الشرعي التحريم؛ لما فيها من دجل وسحر، فهل نأتي إلى واقعنا ونقول بتحريم الكيمياء، كلا، ننظر في الكيمياء المعاصرة فنجدها علمًا يعنى بطبيعة المادة وترتيبها وتغيراتها من خلال المنهج التجريبي الذي هو منهج شهد الشرع باعتبار أصله، فنحكم بحكم مغاير، بالإباحة لها كحكم عام، وربما وجوبًا لمقتضيات مصلحية) (المصدر السابق، ص 353).

وعليه فإن من الضروري (أن يحمل الدارس للتراث التصور الصحيح للإسلام، والمنهجية السديدة، والوعي بعصرنا الذي نعيش فيه، حتى يتوفر في نتاج هذه الدراسات النضج الشرعي والملائمة الواقعية) (المصدر السابق، ص 363).  

4- مراعاة الموضوعية:  

يفتقر أصحاب الحداثة والأيديولوجيات المعاصرة ومَن في ركابهم في دراستهم للتراث إلى كثيرٍ من الموضوعية، منحازين إلى ما توحيه إليه تطلعاتهم وطموحاتهم، حيث يلجأ هؤلاء إلى (توظيف التراث لخدمة أيديولوجيتهم المعاصرة حتى لا تبدو غريبة على البيئة الإسلامية، وإنما تجد أسانيد في تراث هذه البيئة، وحتى يتحقق ذلك لا بد من القيام بهذه العملية التمويهية، وإصحابها بزخم من التأييد وتكريس دلائل صدقها، أو إصحابها بزخم مضاد إذا كانت معاكسة للأيديولوجية المرادة. 

والسلفية ليست بحاجة لذلك فهي -كما أسلفنا- تستند على مرجعية أرسخ في واقع المسلمين - مبدئيًّا- من كلِّ صور التراث المنحدر إلينا من فكر المسلمين وتطبيقاتهم؛ فضلًا عن تراث غير المسلمين القريب والبعيد. 

وعليه: فإن حسب السلفي أن يكشف عن الحقيقة التراثية بشكل موضوعي ثم يبيِّن موقعها الصحيح إسلاميًّا، أي: في ضوء تعاليم الوحي؛ لينصاع الناس -المسلمون- للحقيقة الإسلامية معرضين عما خالفها. مثلا: في دراسة كثير من المتأثرين بنظرية التطور العضوي لمقدمة ابن خلدون في حديثه عن مراتب الكائنات من الأدنى إلى الأعلى؛ جمادًا فنباتًا فحيوانًا فإنسانًا، ومن خلال عبارات -موهمة بلا ريب- حكم هؤلاء بأن ابن خلدون سبق دارون إلى القول بنظرية التطور العضوي، وتسلسل الإنسان من المخلوقات الدنيا؛ لأن ضغط الفكر المعاصر الذي يمثل مرجعية هؤلاء أملى عليهم هذا الحكم! 

أما السلفيون: فإنهم من خلال دراستهم الموضوعية لما كتبه ابن خلدون في تاريخه قد وصل بعضهم إلى أن حديثه إنما هو عن مراتب هذه الموجودات من حيث خصائصها، ولنفرض أن السلفي انتهت دراسته الموضوعية إلى أن ابن خلدون يقول بنظرية التطور العضوي في جانبها المنكر للخلق المستقل لآدم فإنه لا حاجة له إلى حدوس (من الحدس) يدرأ بها هذه النتيجة، وحسبه أن يكشف موقف الوحي بشأن خلق آدم، وبالتالي خطأ أي تصور مخالف كائنًا مَن كان قائله؛ ابن خلدون أو غيره (المصدر السابق، ص 358- 359).

5- سلامة الغاية:

غاية العصرانيين من دراسة التراث هي احتواؤه؛ ليوظفوه حسب أيديولوجيتهم في انطلاقتهم المواكبة للعصر الحاضر. أما غاية السلفية من دراسة التراث ونقده فهي: القضاء على عناصر الخلل في فساد العصرانيين المنهجي؛ لئلا يتسرَّب هذا الخلل إلى حياة المسلمين المعاصرة عبر بوابة التراث. 

 (إننا -كما يقول أكرم العمري- بحاجة في استيحاء التراث لتكوين المنظومة العقلية لمنهجنا، مستمدين ذلك من الكتاب والسنة ومناهج الأصوليين والفقهاء -التي لا تتعارض مع أدلة الوحي ومناهج أهل السنة في الاستدلال-.... إن إيجاد هذه المنظومة صار ضرورة حتمية، وإن رفض المنطق الغربي بسبب عوارضه الوثنية وجذوره المادية وتفلته من السياج الديني يحتاج إلى منظومة عقلية بديلة، وأحسب أن أساسها موجود في التراث) (المصدر السابق، ص 361 نقلًا عن (التراث والمعاصرة) أكرم العمري، 70 -71)

(إن الأمة ما لم ترتكز على تراثها؛ فإنها توشك أن تذوب و تضمحل هويتها، وما لم يكن التراث ممحَّصًا مطهَّرًا من عناصره التي انكشف زيفها؛ فقد يكون هو عامل تخلُّف وشلل، هذا بالنسبة للمسلمين، أما بالنسبة لغير المسلمين فيهدف من دراسة التراث إلى تمييز ما يدخل تحت ظل الإسلام ويمثِّل تعاليمه حسب الطاقة البشرية فهمًا وتطبيقًا، مما هو خارج عن الإسلام مخالف له، وإن انتسب إليه وانطوى تحت ما يسمى بالتراث الإسلامي، وذلك من أجل أن تقوم الحجة من قِبَل المسلمين على غيرهم؛ سواء كانوا من الدارسين للإسلام: كالمستشرقين، أو سواهم من الباحثين عن الحق) (المصدر السابق، ص 360 -361 بتصرفٍ).  

وللحديث بقية إن شاء الله.