الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 04 يناير 2023 - 11 جمادى الثانية 1444هـ

الكبائر (3) عقوق الوالدين (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

المقدمة:

- الكبائر هي الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمَن اجتنبها في الدنيا الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (‌إِنْ ‌تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

- عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، حيث قرن الله بينه وبين الشرك: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟) ثَلاثًا، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (الإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ...) (متفق عليه).

مكانة الوالدين:

- كما أن التوحيد أعظم حق للخالق، كان الإحسان إلى الوالدين أعظم حق للمخلوق: قال الله -تعالى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (النساء:36)، وقال: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (الإسراء:23). وقال الله -تعالى-: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) (الأحقاف:15).

- فالأم تتحمل الصعاب والآلام من أول لحظة في وجودك: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) (لقمان: 14)، (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) (الأحقاف: 15)، وجاء رجل إلى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فقال: "إني أحمل أمي وأطوف بها، أتراني وفيتها حقها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة من زفراتها!".

- تسهر الليل على راحتك وتفزع لبكائك وتتلوث لتطهرك من النجاسة: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: "إن لي أمًّا بلغ الكبر منها أنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية، فهل أديتُ حقها؟ قال: "لا؛ لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنتَ تصنعه وتتمنى فراقها!".

- وأبوك يسعى في الدنيا لأجلك، فيحرم نفسه ليعطيك، ويضعف بدنه ليقويك، ويفديك من المخاطر بنفسه ليبقيك، ويتألم أشد الألم لما يؤذيك: "كتب أحد الصالحين إلى أبيه: جعلني الله فداك، فكتب إليه الوالد: لا تكتب مثل هذا؛ فأنت على موتي أصبر مني على موتك!".

- ولذلك مهما عملنا لهم، فلن نوفيهم حقهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا؛ إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ) (رواه مسلم).

- ومن المفروض أنه جاء دورك في الوفاء للوالدين؛ فأنت إلى قوة واستطاعة، وهما إلى الكبر والضعف: قال الله -تعالى-: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) (الإسراء:23)، وقال -تعالى-: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ) (الرحمن:60).

- لكن بعض الناس سلك مسلك الجحود والإنكار، ونسيَ أمر الله بالإحسان إليهما، ووقع في العقوق: قال الله -تعالى-: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ.) (الأحقاف:17).

من مظاهر العقوق(1):

1- تحزينهما وإتعابهما والتعالي عليهما: "التأفف والعبوس - الاستخفاف بهما - عيب طعام الأم - أمرها بالكنس والتنظيف وترك المعاونة - ترك الاستئذان حال الدخول عليهما - إثارة المشاكل مع إخوته أو زوجته في حضورهما - كل ما سَبَّب لهما الحزن والمشقة"، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا) (رواه مسلم). وقال عروة بن الزبير: "مَا بَرَّ وَالِدَهُ مَنْ شَدَّ الطَّرْفَ إِلَيْهِ" (السِّيَر).

2- إدخال المنكرات بيتهما بما يجعلهما في محل مسئولية عند الله: قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ ‌اللهَ ‌سَائِلٌ ‌كُلَّ ‌رَاعٍ ‌عَمَّا ‌اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ، حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).

3- وهو مِن أعظمها: التخلي عنهما وقت الحاجة والعجز أو التقتير عليهما "فأين ردُّ الجميل؟!": قال الله -تعالى-: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ) (الرحمن:60)، وقال -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي شكي والده في أخذ المال منه: (أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني). (مِن صور العقوق حول ذلك؛ تلك الصورة المكرورة لأم تموت في بيتها، ولم يعلم بها أحدٌ من أولادها إلا بعد أيام لما دخلوا البيت؛ وذلك لقلة زيارتهم لها!).

4- التسبب في شتمها أو لعنها: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟! قَالَ: (نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ) (متفق عليه).

5- إيثار الزوجة والأولاد عليهما: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: (أُمُّكَ). قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ). قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ). قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أَبُوكَ) (متفق عليه).

صورة من العقوق حول ذلك: جاء في كتاب: "بر الوالدين آداب وأحكام لخالد الخراز": "أن أمًّا وابنها عاشا حياتهما بكلِّ ظروفها حلوها ومرها، وشب الولد وهو في بيت أمه تنظر إليه بكلِّ شوق وسرور ولهفة، وتتمنى له الخير، وبعد أن بلغ سن الزواج أخذت الأم تبحث له عن زوجة جميلة من أسرة طيبة، ولا تدري المسكينة ما تخفي لها الأقدار، وتزوج الولد وفرحت الأم، وما هي إلا أيام حتى كشرت الزوجة عن أنيابها، وأخذت تحشو ذهن زوجها بضرورة إيداع أمه في دار المسنين بحجة أنها كبيرة مسنة، وحاول الابن جاهدًا أن يثنيها عن رأيها، ولكنها أصرت! وبقلب من حجر، وجماد من لحم، ذهب بها إلى دار رعاية المسنين، وهناك أجلسها على كرسي بجوار العيادة بحجة الكشف عن صحتها، وقال لها العاق: اجلسي هنا على هذا المقعد لتدخلي إلى الطبيب، ثم تركها هاربًا إلى زوجته الفاضلة!

ومضت الساعات والأم جالسة في انتظاره، ولكنها عبثًا تجلس، ومفقودًا تنتظر، فلقد ذهب الولد العاق دون رجعة، وبلا عودة حتى أنكر الموظف جلوسها ليقول لها: لماذا تجلسين هنا يا عمة؟ فأجابت: ابني سوف يأتي الآن ليأخذني بقلب مشبع بالأمل! قال لها الموظف: ادخلي يا أماه فقد أسدل الليل ستاره، ولأمر ما عاشت الأم في تلك الدار سنتين! وغدت كل يوم تنزل من مخدعها، وتجلس على نفس المقعد الذي تركها ولدها فيه، وتقول: سوف يأتي ولدي الآن أنا في انتظاره! أنا في انتظاره!".

عاقبة العقوق:

1- يستجلب غضب الرب -سبحانه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

2- يستجيب الله دعاءهما ولو كان الولد طائعًا: "ذكر الشاهد من قصة جريج العابد وأمه"؛ فكيف لو كان الولد عاصيًا؟!

3- سبب في حبوط الأعمال أو ردها على صاحبها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلاثَةٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُمْ صَرْفًا وَلا عَدْلا: عَاقٌّ، وَمَنَّانٌ، وَمُكَذِّبٌ بِالْقَدَرِ) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).

4- يمحق بركة الرزق والعمر: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) (رواه البخاري ومسلم).

5- سبب في الحرمان من الجنة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ، ولا عَاقٌّ وَالِدَيْهِ، وَلا مُدْمِنُ خَمْرٍ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني).

6- عقوبة معجلة في الدنيا قبل الآخرة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (بابانِ مَعَجَّلانِ عُقُوبَتُهُما فِي الدُّنْيا: البَغْيُ والعُقُوقُ)(رواه الحاكم، وصححه الألباني).

الجزاء من جنس العمل (كما تدين تدان):

"هذه أم تجلس مع أطفالها كل يوم وهم يدرسون، وكان والد زوجها شيخًا مسنًّا كبيرًا، يعيش معهم في البيت، ولكن في غرفة منعزلة في حديقة البيت، كل يوم تذهب إليه تضع له الطعام ثم تعود إلى أولادها تلعب معهم وتقوم على تربيتهم، وفي يوم من الأيام رأت أحد أولادها الصغار يلعب في ورقة وقلم يرسم مربعات في وسط الورقة، فسألت الأم: يا بني ماذا ترسم؟ فأجاب: أرسم بيت المستقبل! فرحت الأم لجوابه، ثم قالت: ولماذا هذا المربع بعيد عن البيت؟ فقال: هذه غرفتك في المستقبل، فقالت له متعجبة: ستجعلني في غرفة وحدي؟ فقال: نعم، كما أنت تجعلين جدي في غرفة منعزلة وحده!

فكانت هذه الكلمات البريئة كالصاعقة لهذه الأم، فتأثرت لموعظة الطفل الصغير، وذهبت وغيرت أثاث البيت، وجاءت بالجد إلى داخل السكن في أفضل غرفة في البيت، وعندما عاد زوجها تعجب أن الجد داخل البيت، فقال لها: ماذا حدث؟ فقالت له ما قاله الطفل؛ فتأثر تأثرًا شديدًا، وشكرها على ذلك" (بر الوالدين آداب وأحكام لخالد الخراز).

خاتمة: علاج العقوق:

التزام البر مع الوالدين، واستحضار فضلهما على الدوام، والتيقُّن مِن أنهما سبب عظيم بعد التوحيد في نيل الجنة، والنجاة من النار: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ) قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ) (رواه مسلم).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قال ابن حجر العسقلاني -رحمه الله-: "والعقوق مشتق من العقِّ، وهو: القطع، والمراد به: صدور ما يتأذَّى به الوالد مِن ولده، مِن: قول، أو فعل؛ إلا في شرك أو معصية، ما لم يتعنت الوالد" (فتح الباري).