الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 03 نوفمبر 2022 - 9 ربيع الثاني 1444هـ

مقالات في علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (8) الأحرف السبعة وعلاقتها بالقراءات المتواترة

كتبه/ ياسر محمد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فسينتظم الكلام في هذا المقال حول معنى الأحرف والمراد بها، قال اللغويون: "حرف كل شيء: هو طرفه وحافته"، وقد ذكر الداني: "أن الأحرف هنا على وجهين: أحدهما: أن القرآن أُنزِل على سبعة أوجه من اللغات واللهجات، قال تعالى: "ومِن الناس مَن يعبد الله على حرف" أي: وجه مخصوص. والثاني: أن تسمية القراءات أحرفًا من باب السعة، وسميت القراءة حرفًا، وإن كان كلامًا كثيرًا؛ من أجل أن منها حرفًا جاء على غير نظمه، مثل: القلب، والإمالة، والزيادة، والنقصان، والمد، والقصر، والتقديم، والتأخير" (انتهى بتصرفٍ).

والدليل: أن عمر رضي الله عنه صلَّى خلف هشام بن حكيم بسورة الفرقان، وذلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال عمر: "فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره -أي: أجذبه في الصلاة-، فتصبرت حتى سلَّم، فلببته بردائه، فقلت: مَن أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال: أرسله، اقرأ يا هشام، فقرأ القراءة التي سمعته، فقال صلى الله عليه وسلم: كذلك أنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأت، فقال: هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف؛ فاقرأوا ما تيسر منه"، وفي رواية" "فأيما حرف قرأت به؛ فقد أصبت".

فمِن خلال رواية هذا الحديث نستطيع أن نقول: إن هذا الحديث من أقوى الأدلة التي تبيِّن بجلاء أن المقصود بالأحرف السبعة هو اختلاف اللهجات والأوجه المقروء بها؛ لقول الفاروق عمر رضي الله عنه: "إن هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها".

وكذلك في هذا الحديث: من الأدلة على أن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم هذه اللهجات من جبريل عليه السلام، وعلمها الصحابة، إذ قال هشام لعمر: "أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وكذلك هذا الحديث دليل على أن كل هذه الأحرف نزلت من عند الله تعالى تيسيرًا وتخفيفًا على الأمة، وكذا فيه من الدلائل على أن الاختلاف هنا هو اختلاف تنوع، وليس اختلاف تضاد؛ لأن النبي قال: "هكذا أنزلت" لما قرأ هشام، وقال: "هكذا أنزلت" لما قرأ عمر.

وفي هذا دليل أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بكل هذه الأحرف، ومن المعلوم أن هشامًا رضي الله عنه كان يقرأ في سورة الفرقان، وهذه السورة وقع فيها اختلاف في بعض الألفاظ كغيرها من سور القرآن الكريم، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: "سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نُتًّخَذَ من دونك أولياء" بضم النون، وكذا قرئ بفتحها؛ فقد قرأ الإمام أبو جعفر رحمه الله بضم النون وفتح الخاء، وقرأ الباقون بفتح النون وكسر الخاء؛ فهذا لا شك أنه اختلاف لهجات، وكذا وقع في هذه السورة في قوله تعالى: "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا"؛ حيث قرأ بعضهم: "ذرياتنا" بالإفراط، وبعضهم قرأها بالجمع، وهذا الجمع والإفراط يعد من معاني الأحرف السبعة، واللهجات المختلفة.

وكذا في قوله تعالى في هذه السورة: "أو تكون له جنة نأكل منها"؛ حيث قرأ حمزة والكسائي وخلف "نأكل منها": بالنون، وقرأ الباقون: "يأكل منها" بالياء، و"يأكل منها" عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم، ونأكل بالنون عائد على الجنة، أي: نأكل من الجنة.

وهذه الأمثلة ليست على سبيل الحصر، بل هي للتوضيح، فكل هذه الأحرف وقع فيها اختلاف اللهجات، مع موافقتها للرسم العثماني، واللغة، والتواتر.

وقد ذكر الإمام ابن الجزري رحمه الله في منظومته طيبة النشر في القراءات العشر ما يوافق ذلك، فقال: "وَقيلَ فِي الْمُرَادِ مِنْهَا أَوْجُهُ...وَكَوْنُهُ اخْتِلَافَ لَفْظٍ أوْجَهُ»، وهذا يبيِّن ضعف القول بأن هذه الأحرف سبع لغات من لغات العرب متفرقة في القرآن، وأكبر دليل على ضعف هذا القول: أن عمر وهشام رضي الله عنهما كانا من قريش، وصوَّب النبي صلى الله عليه وسلم قراءتهما، وكذلك قد ذهب البعض إلى أن هذه الأحرف معناها: الحلال والحرام، والمحكم والمتشابه، والأمثال، والإنشاء، والناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمبين والمفسر، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والتفسير والتأويل، وكل هذا بعيد كل البُعد عن معنى هذه الأحرف؛ وذلك لأن عمرًا وهشامًا رضي الله عنهما لم يختلفا في شيء مما سبق من ذلك، ولكن كان في قراءة الكلمة فحسب، هذا وقد أجمعوا على أن المقصود ليس هو أن يقرأ الحرف الواحد "الكلمة" على سبعة أوجه؛ إذ لا يوجد ذلك إلا في كلمات يسيرة في القرآن، ككلمة "أف - جبريل - هيهات أو هيت"، وكذا أجمعوا أنه ليس المقصود بهذه الأحرف "القراء السبعة"؛ فهذا لا يصح إطلاقا.

وللحديث بقية إن شاء الله.