الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 02 يوليه 2022 - 3 ذو الحجة 1443هـ

الرد على شبهات "سعد الدين الهلالي" حول الحجاب

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلا يكف الدكتور "سعد الدين الهلالي" عن التلاعب بالثوابت تحت ذرائع شَتَّى، وكان من آخرها لقاؤه مع الإعلامي "عمرو أديب"، والذي أنكر فيه فرضية الحجاب على المرأة المسلمة متذرعًا بعددٍ مِن الشبهات الساقطة التي كان مِن المفترض بحكم دراسته في جامعة الأزهر أن يكون أدرى الناس بتهافتها.

ولنا معه وقفات في عِدَّة محاور:

المحور الأول: وجوب اتباع الشريعة ومنهج تفسير نصوصها،

المحور الثاني: بيان معنى (الحجاب - الجلباب - الخمار - ستر العورة).

المحور الثالث: حديث أسماء إذا حُكِم بضعفه، يكون الواجب هو ستر الوجه والكفين، وليس سقوط فرضية الحجاب.

المحور الرابع: الأجوبة عن شبهات متفرقة.

المحور الأول: وجوب اتباع الشريعة ومنهج تفسير نصوصها، وفيه عِدَّة نقاط

1- أولًا: أنزل الله عز وجل تشريعًا على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وجعله واجب الاتباع، فقال تعالى: "ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون".

2- نصوص الشريعة جاءت مفهمة معلمة، تُفهَم بقواعد خاصة بينتها الشريعة ذاتها، وبقواعد عامة مستفادة من العقل، ومن قواعد اللغة العربية في زمن نزول الوحي، وبالتالي: فالواجب اتباع نصوص الشرع وتفسيرها بالمنهج الذي أرشد إليه الشرع.

وغني عن الذكر: أن افتراض أن ثمة مخاطِب يريد من المخاطَب أن يفهم كلامه برأيه وهواه هو نوع مِن العبث يَتَنزَّه عنه عقلاء البشر؛ فكيف بخطاب الله عز وجل؟!

3- من أجل هذا جعل الله وسيلة مَن يجهل الخطاب ومنهج تفسيره هو: سؤال أهل الذكر، فقال تعالى: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"، وقال تعالى: "وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا"، ومِن أجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقِّ مَن أفتى صاحب الجرح أن يغتسل رغم جرحه فمات: "قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا، إنما شفاء العي السؤال".

4- وعلى الرغم مِن أن السؤال هو وسيلة العامي لمعرفة الحكم الشرعي؛ إلا أنه يجب عليه الحذر من زلات العلماء كما حذَّر منها ملهم هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: "ثلاث يهدمن الدِّين: زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، والأئمة المضلون"، ويعرف العامي زلةَ العَالِم بمخالفته لمَن سبقه، وإنكار مَن أتى بعده، وبيان أن كلامه مصادم للنصوص.

5- ومن هنا يعلم: أن النصوص كما رُوِيت بالتواتر: كالقرآن والسنة المتواترة، أو بالأسانيد كباقي السنة، فإن منهج فهمها نُقِل جيلًا بعد جيلٍ؛ قال الله تعالى مخاطبًا جيل الصحابة رضي الله عنهم: "فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا"، وقال صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العِلْم من كلِّ خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين".

6- ومِن ثَمَّ فقد اتصل هذا العلم منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم عِلْمًا وعملًا، وقامت الأمة برفض انتحال المبطلين (وإن حمل بعضُهم شهادات علمية في زماننا)، وما قبلت الأمة فيه الخلاف مما قَدَّر الله ألا يجعل عليه بينات، وإنما جعل عليه أدلة محتملة لكي تبذل الأمة جهدها في فهمها، وهذه عبودية خاصة يتميَّز بها مَن يريد الامتثال لشرع الله عمَّن يريد الفتنة، قال تعالى: "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ".

7- جعل اللهُ إجماعَ الأمة حجة كاشفة يعلم بها الحق في أمورٍ لم يكن دليلها في الأصل مما يعرفه القاصي والداني، فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الجَمَاعَةِ".

8- والمسائل الإجماعية لا يلزم أن تكون مُجْمَعًا على كلِّ تفاصيلها، بل قد يكون الأصل مجمعًا عليه، وبعض التفاصيل فيها اختلاف، وهذه التفاصيل المختلف فيها لا تقدح في الأصل المجمع عليه.

9- هذه الأمور المجمع عليها ينتشر علمها؛ حتى يعلمها العالم والجاهل، والصغير والكبير، وحينئذٍ تُوصَف بأنها معلومة من الدِّين بالضرورة، ويرتِّب العلماء على وصف مسألة ما بأنها معلومة من الدين بالضرورة تكفير منكرها عند جمهور أهل العلم؛ مما يستوجب الحذر الشديد مِن الخوض في هذه المسائل.

10- لا يوجد نظام قانوني يمكن أن يجعل العرف مقدَّمًا على نصِّ القانون؛ وإلا فَقَد القانون معناه، وغاية ما هنالك: أن يعترف القانون بالعرف فيما لا يعارض القانون، أو في تفسير ما أجمله القانون: كالتعبير عن الرضا في العقود.

وشريعة الله عز وجل أولى بهذا، وهي مقدَّمة على كلِّ عرف يخالفها، وكل عرف يخالفها فهو عرف فاسد، بل وحتى الشروط التعاقدية المنصوص عليها تبطل إذا خالفت الشريعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بالُ أقوامٍ يشترطون شروطًا ليست في كتابِ اللهِ؟! مَن اشترطَ َشرطًا ليس في كتابِ اللهِ؛ فهو باطلٌ، وإن كانَ مائةَ شرطٍ، كتابُ اللهِ أحقُ، وشرطُ اللهِ أوثقُ".

المحور الثاني: (حجاب المرأة المسلمة - الجلباب - الخمار- ستر العورة):

قال الله تعالى: "وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ ‌لِقُلُوبِكُمْ ‌وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا".

وشاع في الأمة منذ ذلك الحين أن يسموا تلك الآية: "آية الحجاب"، وأن يقولوا فُرِض علينا الحجاب أو ضرب علينا الحجاب، كما قالت عائشة رضي الله عنها وهي تحكي واقعة الإفك: "فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَكُنْتُ أُحْمَلُ في هَوْدَجِي، وَأُنْزَلُ فِيهِ".

وهذه الآية وإن كان الخطاب فيها لأمهات المؤمنين؛ إلا أن التعليل فيها: "ذَلِكُمْ أَطْهَرُ ‌لِقُلُوبِكُمْ ‌وَقُلُوبِهِنَّ"، يجعل دخول عموم المؤمنات فيها دخولًا أولويًّا.

وهذه الدرجة مِن وجود حاجز بين الرجل والمرأة إذا كانت ثمة حاجة مباحة تستلزم الكلام بينهما هي أعلى الدرجات، وقد بيَّنت الآيات بعدها، وجاء في السنة صفات يجب أن توجد في ثياب المرأة المسلمة متى احتاجت إلى الخروج من بيتها.

وقد جاء استعمال الحجاب بصيغة الأمر: كما أخرج أبو داود والترمذي في "السنن" عن نَبْهَانَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْهُ: أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَمَيْمُونَةَ، قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ أَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أُمِرْنَا بِالحِجَابِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: "احْتَجِبَا مِنْهُ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَيْسَ هُوَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا وَلَا يَعْرِفُنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: "أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا؟! أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ؟!"، قال الترمذي: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ".

ومن هنا يعلم: أن كلمة الحجاب كلمة قرآنية، وأنها كانت مستعملة للدلالة على هذه الفريضة، وإن كانوا لم يسموا بها ملابس معينة؛ فسواء لبست المرأة جلبابًا أو درعًا، أو غير ذلك؛ فيراعى أن يكون حجابًا.

ثم غلب على المتأخرين وصف الثياب التي تحقق شروط الحجاب بأنها: "حجاب"، وهاهنا كان على "الهلالي" أن يراعي العرف؛ لكونه مجرد عرف لفظي يوافق الشرع ولا يخالفه، بدلًا من محاولة خداعه للمشاهِد أن الحجاب كاسم أو مسمَّى هو من اختراع التيارات الإسلامية!

والجلباب: هو الثوب الذي تلبسه النساء، وقد أمر الله المؤمنات بصفةٍ معينةٍ في جلباب المرأة المسلمة، فقال "يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا"، إذًا فالجلباب اسم عربي لنوعٍ مِن الثياب الذي ترتديه النساء، والذي أمر به الشرع المؤمنات أن يدنين الجلباب من فوق الرؤوس؛ فيستر الرأس والشعر، وسائر البدن، ومِن ثَمَّ يكون هذا الجلباب حجابًا أو قائمًا مقام الحجاب، أي: يكون قائمًا مقام حاجز بين الرجل والمرأة، المذكور أولًا.

والخمار: هو غطاء الرأس، وحيث إن الشرعَ لم يشترط نوعًا معينًا من الثياب على المرأة، وإنما اشترط أن تكون الثياب محققة لشرط ستر العورة، وحيث إن النساء في الجاهلية كن يبرزن القلادة وما حولها؛ فقد أمر الشرع النساء إذا لبسن درعًا وخمارًا (الدرع ثوب أشبه بما نسميه اليوم بالعباءة) فأمر في هذه الحالة بضرب الخمار على الصدر، فقال تعالى: "وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ".

وستر العورة: هي مِن الأمور المجمع على وجوبها على الرجال والنساء؛ في الصلاة وخارجها، وأن حدَّ هذه العورة ثابت بالشرع، والالتزام بهذا الواجب في حق المرأة يعني التزامها بالحجاب، وهو المصطلح الذي شاع أكثر في العصر الحديث دون أن يكون في شيوعه أي إضافة لما سبق أن أجمعت الأمة عليه؛ ولذلك كان مِن مخادعات "الهلالي" أن يأتي بنقلٍ عن "ابن رشد" في "بداية المجتهد"، ثم يكمله مِن عنده هو!

قال ابن رشد رحمه الله: "اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ بِإِطْلَاقٍ، وَاخْتَلَفُوا: هَلْ هُوَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ أَمْ لَا؟ وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْعَوْرَةِ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّهَا مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ".

وهنا تجدر الإشارة إلى أن ستر العورة واجب إذا كان الإنسان بحضرة مَن يجب أن يستر عورته منهم، ويشرع أيضًا في الصلاة، وبالتالي فأي خلاف يُروَى في شأن ستر العورة في الصلاة لا يؤثِّر على الإجماع الذي عَبَّر عنه ابن رشد بقوله: "اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ بِإِطْلَاقٍ".

وقد خدع "الهلالي" مستمعيه ومشاهديه: حينما زَعَم أن هذا هو موطن الإجماع، وهو ستر العورة، وأنه متروك لكي نحدِّد العورة عُرْفًا، مع أن ابن رشد الذي اختار أن ينقل كلامه بيَّن القَدْر المجمع عليه في بيان حدِّ العورة، فقال: "أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ حَدُّ الْعَوْرَةِ مِنَ الْمَرْأَةِ؛ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ بَدَنَهَا كُلَّهُ عَوْرَةٌ مَا خَلَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ قَدَمَهَا لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ، وَذَهَبَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ". 

إذًا هناك قدر متفق عليه أنه داخل في العورة، وانحصر النزاع في الوجه والكفين، وهو الخلاف المشهور، وخلاف ضعيف بشأن ظاهر القَدَم.

ويُلَاحَظ: أن ابن رشد لم يعر القول الذي دندن حوله "الهلالي" كثيرًا مِن أن الذراع داخل ضمن ما يمكن كشفه، وهو القول المنسوب لأبي يوسف؛ وهذا إما لضعفه الشديد، وإما لكونه ليس متعلقًا ببيان حدِّ العورة، وإنما يتعلق برخصة انفرد بها أبو يوسف، ولم تُعتمَد في المذهب، ورغم ذلك هي في شأن امرأة تلي عمل يلزم منه كشف ذراعها، فقال حينئذٍ تكشفه، ويلزم مَن حضر مِن الرجال غض البصر.

ومما ينبغي التنبيه عليه: أن عامة العلماء على أن عورة المرأة في الصلاة أخف من عورة النظر؛ بمعنى أن القائلين بوجوب ستر الوجه والكفين يقولون بجواز كشفهما في الصلاة إن أمنت المرأة في الصلاة أن ينظر الأجانب إليها، وهذا الخلاف الفقهي لا ينبغي أن يستثمر في توهين الإجماع على وجوب ستر العورة، والإجماع على أن بدن المرأة كله عورة إلا ما استثني، وهو: عينها عند فريق، ووجهها وكفيها عند فريق.

وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن القول بدخول القَدَم فيما يمكن كشفه، قول ضعيف أهمله ابن عبد البر في حكاية مذاهب العلماء.

قال الحافظ ابن عبد البر في "الاستذكار": "أجمع العلماء على أن ستر العورة فرض واجب بالجملة على الآدميين"، ثم قال: "الذي عليه فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق: أن على المرأة الحرة أن تغطي جسمها كله بدرع صفيق سابغ، وتخمِّر رأسها؛ فإنها كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وأن عليها ستر ما عدا وجهها وكفيها"، وكذلك ابن حزم في "مراتب الإجماع"، ولم يتعقبه ابن تيمية؛ وذلك لاحتمال أن الإمام أبا حنيفة أراد بذلك الرخصة عند وجود الحاجة إليها، ولمخالفة ذلك للأحاديث الصحيحة، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إليه يَوْمَ القِيَامَةِ"، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ يَصْنَعْنَ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ: "يُرْخِينَ شِبْرًا"، فَقَالَتْ: إِذًا تَنْكَشِف أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ: "فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا، لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ"، قال الترمذي: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ".

وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: أَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ لَيْسَ عَلَيْهَا إِزَارٌ؟، قَالَ: "إِذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا"، قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.

المحور الثالث: تضعيف حديث أسماء يقوي حجة مَن يقول بفرضية النقاب، ولا يسقط فرضية ستر الوجه والكفين:

تقدَّم ذكر الآيات التي بيَّنت حدود عورة المرأة: كقوله تعالى: "يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَ?لِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا"، وقوله "وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ"، مع قوله صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة".

وهذه الأدلة هي حجة العلماء الذين قالوا بوجوب ستر جميع البدن بما في ذلك الوجه والكفين، ووجه الدلالة من هذه النصوص ظاهر لا يحتاج إلى مزيد شرحٍ؛ فما الذي دفع بعض العلماء إلى القول بأن ستر الوجه والكفين مستحب فقط وليس بواجب؟

والجواب: أن هذا يرجع إلى أمرين:

الأول: ما وَرَد عن بعض السلف من تفسير قوله تعالى: "ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها" على أنه الوجه والكفين، فان السلف مختلفون في ذلك على قولين: الأول: أن هذا لا يستثني شيئًا مِن بدن المرأة، وأن ما ظهر منها هو ما ظهر رغم إرادتها، وهو الأقرب؛ لكون اللفظ الوارد في الآية: "ظهر"، وليس "أظهرن".

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "وقوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) أي: لا يظهرن شيئًا من الزينة للأجانب؛ إلا ما لا يمكن إخفاؤه. قال ابن مسعود: كالرداء والثياب، يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب، فلا حرج عليها فيه؛ لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه، ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها، وما لا يمكن إخفاؤه، وقال بقول ابن مسعود: الحسن، وابن سيرين، وأبو الجوزاء، وإبراهيم النخعي، وغيرهم".

والقول الثاني: مَن قال: إن المراد هنا الوجه والكفين.

قال ابن كثير في تفسيره: "وقال الأعمش عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال: وجهها وكفيها، والخاتم، وروي عن ابن عمر، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء، والضحاك، وإبراهيم النخعي، وغيرهم، نحو ذلك".

الثاني: حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: فقد أخرج أبو داود في "سننه" عن عائشةَ رضي اللهُ عنها: أن أسماءَ بنتَ أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنهما دخلَتْ على رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم وعليها ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: "يَا أَسْمَاءُ، إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلاَّ هَذَا وَهَذَا"، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ.

وهو حديث ضعيف؛ لثلاثِ عللٍ:

- الإرسال؛ فخالد بن دريك لم يدرك عائشة رضى الله عنها

- جهالة حال خالد بن دريك نفسه.

- فيه سعيد بن بشير، وقد تكلَّموا فيه.

وقد ذهب بعض المحدِّثين إلى أنه له متابعات وشواهد ترفعه إلى درجة الصالح للاحتجاج؛ لا سيما إذا ضُمَّ إليه ما ورد عن ابن عباس في أن "ما ظهر منها" هو الوجه والكفين.

وذهب بعضهم إلى أن ضعفه غير منجبر، ومعظم مَن قال بضعف الحديث أعمل عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة"؛ لا سيما وأن تفسير "ما ظهر منها" بالوجه والكفين الوارد عن ابن عباس رضي الله عنهما مُعَارَض بنقلٍ آخر عنه أنه إحدى العينين.

ومِن هنا يُعْلَم مدى مخادعة "الهلالي" للناس: حيث أراد أن يوهم أن الحديث الذي هو مستند القول بالحجاب ضعيف؛ ليتوصل بهذا إلى إنكار فرضية الحجاب، مع أن تضعيفه يعني القول بالحجاب الكامل المتضمن ستر الوجه والكفين الذي نسميه نحن "النقاب".

ومِن خداعه أيضًا: أنه في سبيل توهين الحديث أخذ يردد أنه لم يوجد في دواوين الإسلام إلا بعد سنة 200 هجرية، وهو يدرك تمامًا مرحلة الرواية الفردية بالإسناد للأحاديث، ثم مرحلة التدوين، وأن تدوين ما دوِّن في هذا التاريخ لا يقدح فيه طالما ورد بإسناده المتصل، وقد حاول "الهلالي" أن يخدع نفسه حينما استعمل تعبير أن الحديث "لم يدون" إلا في هذا التاريخ عندما قال له المذيع: "يعني لم يكن له وجود قبل هذا التاريخ؟"؛ فردَّ: "بأنه لم يدوَّن"، وكأنه بهذا يقنع نفسه أنه قال الحق، ولكنه أوصل إلى المذيع ومِن ثَمَّ إلى المشاهدين الباطل، وهو: التشكيك في هذا الحديث وغيره؛ بزعم تراخي التدوين!

المحور الرابع: شبهات متفرقة:

أولًا: استدلاله بحديث أخت عقبة بن عامر:

ولعل هذا من عجائب الدهر؛ لأن الحديث فيه دلالة ظاهرة على خلاف كلام "الهلالي"، ولكنه اعتمد على أنه يخاطب كل صاحب هوى يريد أن يسمع كلامًا منمقًا يطعن في فرضية الحجاب دون أن يتأمله، والحديث عَنْ عُقْبَةَ بن عامر رضي الله عنه: أَنَّ أُخْتَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ حَافِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، مُرْهَا فَلْتَخْتَمِرْ، وَلْتَرْكَبْ، وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ".

قال الإمام الطحاوي في "شرح مشكل الآثار": "فكان فيما روينا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عقبة أن يأمر أخته بالكفارة فيما كان منها من المعصية، وتَرْكِ تلك المعصية؛ إذ كانت الشريعة تمنعها منها... وكانت في نذرها بمعنى الحالفة لكشفها شعرَها في مشيها، فلم يكن منها ما حلفت عليه؛ لمنع الشريعة إياها عنه، فأُمِرَتْ بالكفارة عنه كما يؤمر الحالف بالكفارة عن يمينه إذا حنث فيها".

فالحديث دليل على أن كشف الشعر معصية بحيث تمنع المرأة من فعلها وإن كانت قد نذرته.

ثانيًا: استدلاله بقصة سبيعة بنت الحارث على أن النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلتزمن بالحجاب، والحديث عن سُبَيْعَةَ بِنْتَ الحَارِثِ: "أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بن خَوْلَةَ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ وَهِيَ حَامِلٌ، فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا، تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَقَالَ لَهَا: مَا لِي أَرَاكِ تَجَمَّلْتِ لِلْخُطَّابِ، تُرَجِّينَ النِّكَاحَ؟ فَإِنَّكِ وَاللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ، وَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ؛ فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَنِي بِالتَّزَوُّجِ إِنْ بَدَا لِي".

فليس في الحديث إلا أنها اكتحلت وتخضبت ولبست، ومعلوم أنها كانت معتدة، فرأت أن عدتها قد انقضت بوضعها جنينها، فقامت فلبست ثوب زينة، وتكحلت في عينها، وخضبت كفيها، فتركت حال المعتدة، والمحادَّة، وعادت إلى شأن المرأة، وما تعتاده من زينة بيتها.

ثم إن أبا السنابل جاء يخطبها، فلو افترضنا أنها كشفت وجهها أمامه، مكتحلة، وقد خضبت كفيها؛ فهذا لا مانع من إظهاره للخاطب.

ومما يؤكِّد على كون ذلك التجمل كان في بيتها للخطاب: أنها عندما أرادت الذهاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لسؤاله واستفساره، تهيأت لحال الخروج من البيت؛ فجمعت عليها ثيابها وذهبت ليلًا، فصارت القصة أيضًا كسابقاتها دليل عليه لا له!

ثالثًا: تردد الهلالي في حال النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه في النهاية انتهى إلى أنهن كن يسترن أجسادهن ورؤوسهن عرفًا، ثم تردد: هل هناك مَن خالفت هذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فادَّعى أن هناك مخالفات، وأنها كانت بغير نكير، وقد رددنا على ما ادَّعاه في قصة سبيعة، وقصة أخت عقبة بن عامر.

ثم عاد فادَّعى أن الدول التي خلطت الدين بالسياسة هي التي توجِّه اللوم لغير المحجبات؛ فأما في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن يوجه لوم لمَن لا ترتدى الحجاب؛ بدلالة القصتين اللتين أشرنا إليهما، وزاد هو: أن افترض أن حالات المخالفة كانت كثيرة، وإن عدم نقل الإنكار يدل على أنه حدثت مخالفات وقَبِلَها المجتمع!

وهذا منه هو قمة الجهل، أو قمة المخادعة؛ فعلى صعيد الإنكار العام وردت نصوص كثيرة، منها:

- قوله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات... " الحديث.

- قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها، فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله عز وجل".

وأما إنكاره على مَن رآها تخالف ذلك؛ فقد تقدَّم حديث أسماء رضي الله عنها، وحديث أخت عقبة بن عامر، ودخل نسوة من بني تميم على عائشة رضي الله عنها وعليهن ثياب رقاق -ما هي مثل الألبسة التي يلبسها المتبرجات اليوم، بل هي ثياب ساترة، لكنها رقيقة- فقالت: "إن كنتن مؤمنات؛ فليس هذا بلباس المؤمنات، وإن كنتن غير مؤمنات فتمتعن به".

وفي الختام: نحذِّر عموم المسلمين مِن الاغترار بمَن يعبث بثوابت الدِّين، ويضرب بإجماع الأمة عرض الحائط.

ونسأل الله أن يقينا شرَّ الفتن، ما ظهر منها وما بطن.