الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 13 يونيو 2022 - 14 ذو القعدة 1443هـ

حاجة كل مسلم للاعتناء بالسُّنَّة (4) منهاج للمسلم في التعامل مع الأحاديث النبوية

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد اعتنى المسلمون بالسُّنة النبوية منذ عهده صلى الله عليه وسلم اعتناءً كبيرًا توارثته الأجيال، جيلًا بعد جيل، وأسفر عن عِلْم عظيم انفرد به المسلمون، وهو علم الحديث (أو علم مصطلح الحديث) بفروعه وأدواته، والذي يُعَد مفخرة للأمة الإسلامية لدقته في التحري والضبط، والذي حافظ على وضبط كل ما سجَّلته الأمة الإسلامية -ضبط صدر وضبط كتابة- من هديه صلى الله عليه وسلم؛ ليصير النبي صلى الله عليه وسلم بحقٍّ هو الشخصية الفريدة الوحيدة في التاريخ البشري كله التي حفظ عنها كل أحداث تاريخها وسيرتها قرابة ربع قرن وأكثر، ودونت كل تفاصيل حياتها وأحوالها اليومية ليل نهار، وعرفت أحوالها مع كلِّ مَن تعامل معهم، مع تمييز دقيق لدرجة صحة كل منقول منها من الصحة والضعف بمنهج علمي متكامل سندًا ومتنًا رواية ودراية، يمكن لمَن شاء مِن المسلمين أو غيرهم أن يدرسه ويتبحر فيه، فينتفع به غاية الانتفاع، وهو ما أقرَّ به البعيد والقريب.

والذي يكشف لكلِّ ذي عينين جهالة أو عمالة مَن يطعن أو يسيء الظن في السُّنة النبوية المدوَّنة المحفوظة؛ خاصة وأن خصائص هذا العلم -علم الحديث- حرمت منها كل الأمم السابقة، ولم تصل البشرية في عصرها الحاضر في نقل أخبارها وأحداثها، وتوثيقها وضبطها ما وصل إليه علماء الحديث عند المسلمين، وهذا من توفيق الله تعالى لهذه الأمة لتحفظ به هدي نبيها صلى الله عليه وسلم؛ خاصة وأن السنة من الوحي "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه"؛ لذا فإنه ينتفع به كل مسلم في كل زمان ومكان. ولله الحمد والمنة.

لقد بذل المسلمون الأوائل مِن الصحابة ومَن بعدهم مِن علماء الحديث جهودًا كبيرة في حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم وضبطها؛ تعظيمًا لها.

وبذلوا لتحقيق ذلك الغالي والنفيس من الأموال والأوقات بلا كللٍ أو مللٍ، وما زالت أسفارهم ورحلاتهم في طلب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم مضربًا للأمثال، ونحن نحتاج بالفعل إلى تذكير المسلمين بما حفلت به كتب السنة والتراجم بالكثير من الأخبار والنماذج الرائعة في طلب الحديث وضبطه وحفظه، ما يبعث في النفوس من جديد الهمة لتعظيم السنة من جديد، والعمل بها ونشرها والدعوة إليها، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "بلغني عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث في القصاص لم أسمعه منه، فابتعت بعيرًا فشددت رحلي، ثم سرت إليه شهرًا حتى قَدمِت مصر -أو قال الشام- فأتيت عبد الله بن أنيس، فقلت: حديث بلغني عنك تحدث به سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعه في القصاص خشيت أن أموت قبل أن أسمعه ... الحديث" (راجع: مفاتح تدبر السنة).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما، وكان لما قُبِض النبي صلى الله عليه وسلم ما زال شابًا، قال: "فإن كنت لآتي الرجل في الحديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجده قائلًا -أي: في القيلولة- فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح على وجهي حتى يخرج".

وذكر عطاء بن أبي رباح أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه سافر إلى عقبة بن عامر رضي الله عنه -وكان وقتها في مصر-؛ ليسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبقَ أحدٌ سمعه مِن رسول الله غيره وغير عقبة، فلما سمعه منه ركب راحلته راجعًا إلى المدينة"، وعن سعيد بن المسيب قال: "إن كنت لأسير ثلاثًا في الحديث الواحد".  

(وهذه الرحلات كانت قبل تدوين السنة حين كان طلب الحديث يحصل مشافهة، ثم تلتها مرحلة أخرى وهي الرحلة من أجل ضبط الكتب وتصحيحها على الشيوخ، ولا زالت حتى الآن. وبعد أن تطورت وسائل الكتابة والطباعة، وتطورت وسائل الاتصال تعارف العلماء وطلاب العلم على نسخ معينة بالضبط والإتقان تعرف باسم محققيها، لكن يبقى ضرورة المشافهة بها على الشيوخ للتأكد من صحة نطق اللفظ وفهم المعنى، وهذا والحمد لله متيسر في كل حاضرة من حواضر المسلمين اليوم، ولا يحتاج إلى رحلة، بل يحتاج إلى وجود حرص وسخاء بالوقت والجهد، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، (إن من يعرف قيمة السنة يرى أنه لو أوتي أضعاف عمره ما أنقضى عجبه من بعضها) (مفاتح تدبر السنة).

ورغم انتشار الأمية بين العرب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد حرص الصحابة على تدوين وكتابة القرآن الكريم وقت نزوله، وكان هذا بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، إلى جانب حفظ الصدر وضبطه الذي يتقنونه، كما حرص بعض الصحابة كذلك على كتابة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان قد نَهَى أولًا عن كتابة الحديث خشية الاختلاط بالقرآن، فلما استقرت الأمور أَذِن في كتابة الحديث، فكان هناك مَن كتب ما سمع مِن الأحاديث.

مثال ذلك: حديث أبي راشد الحبراني قال: أتيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقلت له: "حدثنا مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى إلى صحيفة، فقال: هذا ما كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فنظرت فيها فإذا فيها إن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال: يا أبا بكر قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة ... الحديث".

وقد عرف المسلمون الأوائل مدارسة السنة وحفظها ونشرها، وكانوا يستعينون بمدارسه الأحاديث وتكرارها ومراجعتها لئلا تتفلت منهم وتنسى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جزأتُ الليل ثلاثة أجزاء: ثلثًا أصلي، وثلثًا أنام، وثلثًا أذكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وروي مثله عن عمرو بن دينار وسفيان الثوري (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع).

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "تزاوروا وتدارسوا الحديث، ولا تتركوه يدرس (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنا نكون عند النبي صلى الله عليه فنسمع منه الحديث، فإذ قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه" (المصدر السابق). وعن عطاء قال: "كنا نكون عند جابر بن عبد الله فيحدثنا فإذ خرجنا من عنده تذاكرنا حديثه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا سمعتم مني حديثا فتذاكروه بينكم" (المصدر السابق).

كما اعتمد المسلمون الأوائل التدرج شيئًا فشيئًا في حفظ وتطبيق السنة، أي: جعل مساحة زمنية كافية للتدريب والتكرار، فعن سفيان: "كنت آتي الأعمش ومنصورًا فأسمع أربعة أحاديث خمسة ثم انصرف كراهة أن تكثر وتفلت. وقال شعبة: كنت آتي قتادة فأسأله عن حديثين فيحدثني، ثم يقول أزيدك؟ فأقول: لا حتى أحفظهما وأتقنهما" (المصدر السابق).

قال الخطيب البغدادي: "ينبغي له أن يتثبت في الأخذ ولا يكثر، بل يأخذ قليلًا حسب ما يحتمله ويقرب من فهمه، فإن الله تعالى يقول: "وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلًا" (الفقيه والمتفقه).

ومِن خلال ما ذكرناه؛ فإنه يمكن القول: إن منهاج المسلم في الاعتناء بالسنة النبوية ينبغي أن يقوم على:

1 - التعرف على درجة صحة الحديث.

2- ضبط ألفاظ الحديث ومعرفة معانيها وما فيها من الفقه.

3- العمل بمقتضى الحديث بلا تسويف أو تهاون، والمداومة على ذلك.

4 - حفظ الحديث.

5- نشر الحديث بين الناس حسب احتياجهم له.

وهذا النشر للحديث؛ إما يكون لتعليم الناس حكمًا شرعيًّا أو تقديم نصيحة، أو يكون أمرًا بمعروف أو نهيًا عن منكر، (ومن الأمور المهمة التي ينبغي التنبيه عليها في هذا المقام: أن يكون تبليغ السنة مسندًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم معزوًا إليه قدر الاستطاعة؛ لأن هذا أبلغ في التأثير وأقوى في الحجة، فهناك فرق كبير بين أن تقول: لا تشرب بشمالك، أو أن تقول: هل سمعت يقول النبي صلى الله عليه وسلم كذا ... )، (فالناس في أَمَسِّ الحاجة لأن يسمعوا كلامَ رسول صلى الله عليه وسلم، فأنت بهذه الطريقة تجعله يسلم ويذعن احترامًا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنك بهذه الطريقة أرسلت له رسالة خفية مفادها: أن الذي يريد ذلك منك هو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وليس أنت، فيفهم قصدك ومرادك، وأنها ليست مسألة شخصية أو انتقاص له) (راجع  مفاتح تدبر السنة).