الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 24 مايو 2022 - 23 شوال 1443هـ

وقفات مع قصة أصحاب الأخدود (2) الغلام بين الساحر والراهب

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

المقدمة:

- الإشارة إلى ما سبق في المرة السابقة، والتنبيه على تقسيم القصة إلى مشاهد، سنقف مع كلِّ مشهدٍ بالدرس والعِبْرَة.

المشهد الأول: الغلام والساحر:

عن صيب الرومي -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (كانَ مَلِكٌ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ، وَكانَ له سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ، قالَ لِلْمَلِكِ: إنِّي قدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ) (رواه مسلم).

وقفات وعِبَر من المشهد الأول:

الأولى: ذم السحر والسحرة:

- السحر واستعمال السحرة وسيلة الطغاة في تزييف الحقائق، ومحاربة الحق على مرِّ الزمان: "شاهد القصة: حرص الملك على بقاء السحر كأداة ووسيلة للحفاظ على ملكه" (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) (يونس: 79)(1).

- والسحر كفر بالله -عز وجل-؛ لأن الساحرَ يوهِم الناسَ أنه قادر على النفع والضر بما يتسبب فيه بسحره(2): قال تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة: 102).

- السحرة لا يتوصلون إلى سحرهم إلا بالكفر بالله، وإتيان الأفعال والأقوال الشنيعة: قال شيخ الاسلام بن تيمية: "يكتبون فيها كلام الله بالنجاسة، وقد يقلبون حروف كلام الله -عز وجل-؛ إما حروف الفاتحة، وإما حروف "قل هو الله أحد"، وإما بغيرهما؛ إما بدم وإما بغيره، وإما بغير نجاسة، أو يكتبون غير ذلك مما يرضاه الشيطان، أو يتكلمون بذلك" (مجموع الفتاوى)، ومِن صور وسائلهم الشيطانية (فعل ذلك بدم الحيض أو بالمني!).

- إتيان السحرة خطر شديد على عقيدة المسلم وإيمانه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَن أتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عن شيءٍ، لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً) (رواه مسلم)، وعنْ عائِشَةَ -رضي اللَّه عَنْهَا- قَالَتْ: سَأَلَ رسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- أُنَاسٌ عنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ: (لَيْسُوا بِشَيءٍ)، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، إنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أحْيَانًا بشَيْءٍ فيكُونُ حَقًّا؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: (تِلْكَ الْكَلمةُ مِنَ الْحَقِّ، يخْطَفُهَا الجِنِّيُّ، فَيَقُرُّهَا فِي أذُنِ ولِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ معهَا مِئَةَ كَذْبَةٍ) (متفق عليه)، وقال -تعالى-: (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) (طه: 69)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ) قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ وما هُنَّ؟ قالَ: (الشِّرْكُ باللَّهِ، والسِّحْرُ) (متفق عليه).

الثانية: التحذير من سحر العصر الحديث:

- هناك نوع آخر من السحر المعنوي يستميل القلوب كما يستميلها السحر الحقيقي، وهو: سحر الكلام والإعلام العصري بفروعه وأشكاله: عن عبد الله بن عمر -رضى الله عنهما- قال: قدم رجلان من المشْرق فخطبا، فعجب النَّاس لبَيَانِهما، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ من البَيَان لسِحْرًا)، أو: (إنَّ بعْضَ البَيَان لسِحْرٌ) (رواه البخاري).

- سحر الإعلام القرشي المحدود الإمكانات يؤثِّر على دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فكيف بإعلام العصر؟!: قال الطفيل بن عمرو لما دخل مكة أثناء الحملة الإعلامية القرشية: " ... فجعلتُ الكرسف -القطن- في أذني؛ حتى لا يسحرني محمد!".

- سحرة العصر الحديث يعضدون مُلْك الطغاة بقلب الحقائق وتزييف الأمور: (التنفير من الدِّين وأهله - تشويه صورة الدعاة والعلماء وتجميل صورة الطغاة والفاسدين - تزيين العري والفجور والغناء واللهو وكل ما يبعد الناس عن دين الله - اعتبار السحر والعرافة وظائف سائغة واستضافة أصحابها في إعلامهم - وغير ذلك ... !)؛ قال الله -تعالى-: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إلى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) (البقرة: 221)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمثالهم: (دُعَاةٌ إلى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَن أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا)، قُلتُ: يا رسولَ الله، صِفْهُمْ لنا؟ فقال: (هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا) (متفق عليه).

المشهد الثاني: الغلام والراهب:

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَكانَ في طَرِيقِهِ إذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ، فأعْجَبَهُ، فَكانَ إذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذلكَ إلى الرَّاهِبِ، فَقالَ: إذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وإذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ).

وقفات مع المشهد الثاني:

الأولى: ويمكرون ويمكر الله:

- المَلِك الطاغية يجنِّد كل الطاقات ليكون الغلام ساحرًا، والله يريد له أن يكون داعيًا إليه، وعلى يديه هلاك الملك الطاغية: قال -تعالى-: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال:30)، وقال -تعالى-: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21).

- الطغاة يمكرون، فيكون مكرهم في نحورهم ... فالفرعون كان يقتل الأطفال من بني إسرائيل اتقاء وجود موسى، فينشأ موسى في بيته، وجمع السحرة لإبطال دعوة موسى، فآمنوا وكانوا دعاة إلى دين موسى: (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) (الشعراء: 19)، وقال -تعالى- عن تحول السحرة: (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ . قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . رَبِّ مُوسَى وهارون) (الأعراف: 120-122)، وقال -تعالى- عن ثباتهم: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (طه: 71-72).

- كانت عبادة المَلِك الغاشم هي العقيدة السائدة يومئذٍ في الجماهير، وعبادة الملك الواحد الأحد هي العقيدة المضطهدة يومئذٍ، المستتر أصحابها، ولكنها العقيدة السهلة السمحة الموافقة للفطرة السوية؛ ولذا تأثَّر بها الغلام وتأثر بها الناس: قال -تعالى-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم:30).

الثانية: جواز التعريض عند الضرورة:

- كان الغلام يفر من بطش الساحر وعقابه، بالتعريض في كلامه، وكذلك من أهله؛ لأنه سيُمنع من سبيل الهداية إلى الله إن أطاع أهله والساحر: "إنَّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب(3)" (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصحح الألباني وقفه).

- الأصل حرمة الكذب مطلقًا: قال -تعالى-: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (النحل: 105)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا) (متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) (متفق عليه).

- ولكن يجوز عند الاضطرار والضرورة: فعن أم كلثوم بنت عقبة: أنَّهَا سَمِعَتْ رَسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: (ليسَ الكَذَّابُ الذي يُصْلِحُ بيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا، أوْ يقولُ خَيْرًا)، قالت أم كلثوم: "وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا" (متفق عليه)(4).

خاتمة:

- تذكير بمجمل ما جاء في المشهدين، والإشارة إلى المشهد التالي من خلال معنى: "الله يريد هداية الغلام الذي سيكون على يديه هداية أهل المملكة كلها تقريبًا -بإذن الله-.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وكان الأقوام يتهمون الأنبياء بأنهم سحرة، بما يدل على أن السحر أمره خطير في تزييف الحق، (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى . فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى) (طه: 57-58).

(2) قال ابن قدامه في الكافي: "السحر عزائم ورقى، وعقد، يؤثِّر في القلوب والأبدان، فيمرض ويقتل، ويفرِّق بين المرء وزوجته، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه، قال -تعالى-: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) (البقرة: 102)" (انتهى)، وانظر: (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد - باب ما جاء في السحر).

(3) ومن أمثلة التعريض: كأن يقول للظالم: دعوتُ لك أمس، وهو يريد قوله: اللهم اغفر للمسلمين.

(4) ففي الحرب: لأنَّ الحرب خُدعَة، ومقتضياتها تستدعي التمويه على الأعداء، وإيهامهم بأشياء قد لا تكون موجودة، واستعمال أساليب الحرب النفسية ما أمكن، وفي الصلح بين المتخاصمين: حيث إنَّ ذلك يستدعي أحيانًا أن يحاول المصلِح تبرير أعمال كل طرف وأقواله بما يحقق التقارب ويزيل أسباب الشقاق، وأحيانًا ينسب إلى كل من الأقوال الحسنة في حق صاحبه ما لم يقله، وينفي عنه بعض ما قاله؛ وهو ما يعوق الصلح ويزيد شقة الخلاف والخصام.

وفي الحياة الزوجية: حيث يحتاج الأمر أحيانًا إلى أن تكذب الزوجة على زوجها، أو يكذب الزوج على زوجته، ويخفي كل منهما عن الآخر ما من شأنه أن يوغر الصدور، أو يولد النفور، أو يثير الفتن والنزاع والشقاق بين الزوجين، كما يجوز أن يزف كل منهما للآخر من معسول القول ما يزيد الحب، ويسر النفس، ويجمل الحياة بينهما، وإن كان ما يقال كذبًا؛ لأن هذا الرباط الخطير يستحق أن يهتم به غاية الاهتمام، وأن يبذل الجهد الكافي ليظل قويًّا جميلًا مثمرًا.