كتبه/ مصطفى حلمي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد وصف ابن حبان "الربيع بن خثيم" فقال: "مِن عُبَّاد أهل الكوفة وزهادهم، والمواظبين منهم على الورع الخفي، والعبادة الدائمة".
ولعل إشارة ابن حبان التي يذكر فيها عبارة الورع الخفي قد استقاها من دراسته لحياة الربيع رحمه الله؛ فهو في الواقع نموذج مِن العُبَّاد الذين عاشوا في رحاب المعاني العميقة للكتاب والسنة، فكان كثيرًا ما يردد كلمات السرائر، وأراد تطبيقها حرفيًّا، ونجح في ذلك إلى أبعد حدٍّ حتى وُصِف بأنه من المخبتين.
أراد الربيع تحقيق الحياة الجادة التي يكون العمل فيها لله تعالى وحده؛ لأن كل "ما لا يراد به وجه الله يضمحل!"؛ ولهذا كلما أكثرت ابنته في استئذانه للذهاب لتلعب، أخذ يردد عليها قوله: "اذهبي فقولي خيرًا"، ولما اشترك بعض أصحابه في الاستئذان لها ملحين عليه أجابهم: "لا أحب أن يكتب عليَّ اليوم أني أمرتُ باللعب!".
ونلاحِظ: اتفاقه مع غيره في رغبته تحقيق هيمنة الكتاب على أقوال المسلمين وأفعالهم، وأن يهدفوا إلى تحقيق العبودية لله عز وجل وحده، فالكلام في رأيه ليس له من فائدة إلا إذا اقترن بالتسبيح والتكبير، والحمد لله وحده، وقراءة القرآن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومسألة الخير والاستعاذة من الشر.
وسنجد اتفاقًا بين هذه النظرية، وهي: هيمنة كتاب الله تعالى على المسلمين عند ابن تيمية مدعمة بالأسانيد والأدلة من القرآن والحديث.
كذلك يذكرنا الربيع بنصيحة ابن تيمية الذي كان يوصي فيها المسلمين بقراءة أواخر سورة الأنعام: "قل تعالوا أتلُ ما حرَّم ربكم عليكم" إلى أن بلغ: "لعلكم تعقلون".
إننا نفسِّر هذا الترابط والالتحام الشديدين بين اثنين: أحدهما عاش في عصر الصحابة والتابعين، والثاني في القرن الثامن الهجري؛ بأن النظر في النصوص تخلق تواردًا في الخواطر يتشابه في خطوط العريضة -إن لم يتطابق- مهما بَعُد الزمن!
وكان الربيع بن خثيم ينصح المسلمين بأن يطبِّقوا هذه القواعد في حياتهم أيضًا، وأن يعملوا العمل الصالح وأن لا يقولوا إلا الخير؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات، وأن يكثروا من ذكر الموت.
وتعددت أمامه المقارنات بين المسلمين السابقين وبين معاصريه فيبكي حتى تبتل لحيته ثم يقول: "أدركنا قومًا كنا في جنوبهم لصوصًا!".
ويبدو أن اتجاهَ الخوف هذا قد سَرَى إلى الكوفة من شيوخ البصرة -وفي مقدمتهم: الحسن البصري-؛ فترى الربيع يمر بالحدادين، فإذا نظر إلى الكير وما فيه يصيح في المسلمين ليعتنوا بسرائرهم قبل علانيتهم، فالسرائر خافية عن الناس ولكنها بادية لله، وينصحهم بالتماس دواء السرائر في كلمتين هما: (أن تتوب ثم تعود)، ولما بلغه مقتل الحسين لم يجد تعليقًا إلا مِن آيات الله نفسها، فأخذ يتلو من الكتاب: "اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تتحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون".
وقد مَرَّ بنا حضه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقول في هذا المعني أيضًا: "أكرهُ أن أرى شيئًا استُشهد عليه فلا أشهد أو أرى حاملةً فلا أعينها أو أرى مظلومًا فلا أنصره".
فلم تكن هذه الأقوال إلا تطبيقًا لما أتت به النصوص التي فهمها، وكان ينصح المسلمين بالنظر فيها ودراستها؛ إذ نقرأ له في سياق نصوص أخرى نصائحه للمسلمين بالإلحاح في دراسة الآيات والأحاديث والاجتهاد في استيعابها بمثل قوله: "لا كل ما أنزل على محمد أدركتم، ولا كل ما تقرؤون تدرون ما هو!".
وكان رأيه في الحديث الذي يدل على عمق الخبرة به: "إن مِن الحديث حديثًا له ضوء كضوء النهار تعرفه، وإن من الحديث حديثًا له ظلمة الليل تنكره!".
ويذكر ابن سعد رحمه الله أن الربيع مات بالكوفة في ولاية عبيد الله بن زياد عليها.