الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 21 أكتوبر 2021 - 15 ربيع الأول 1443هـ

تناقضات أصحاب المولد ... هل دافعوا عن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ وهل دعوا للإيمان برسالته؟!

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد تعرَّضنا في مقالة: "مناظرة مصرية حول بدعية المولد قبل ظهور الوهابية"، لمناظرة بين الإمام الفاكهاني أحد القائلين ببدعية الاحتفال بالمولد النبوي، وبيَّن الإمام السيوطي أحد القائلين بالجواز.

وبيَّنَّا: أن الفريق الذي فسَّر البدعة المذكورة في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) (رواه مسلم)، بأنها البدعة الدينية بدلالة قوله -صلى الله عليه وسلم-: (‌مَنْ ‌أَحْدَثَ ‌فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ) (متفق عليه)، ومِن ثَمَّ أعمل عموم (كُلُّ) كما هو ظاهر الحديث؛ هو الأقرب إلى تعظيم السُّنَّة، والنُّصْح للأمة.

ومِن ثَمَّ نقول: إن هذا الحديث وغيره، أفاد أن كلَّ بدعةٍ في الدِّين مذمومة؛ إلا أنه لا يلزم أن كلَّ مَن فسَّر البدعة بمعنى الأمر المحدث مطلقًا (في الدِّين أو الدنيا)، ومِن ثَمَّ قال: إنها تدور على الأحكام الخمسة، سوف يختلف مع الفريق الأول؛ لأنه متى أقر بأن الأصل في العبادات: "التوقيف"، والأصل في المعاملات: "الإباحة"، فسيترتب على هذا: أن تكون الأمور المحدثة في المعاملات محرَّمة أو مكروهة إذا دخلت في عموم نهي، أو اشتركت في العلة مع شيءٍ منهي عنه على وجه التحريم أو الكراهة، وفيما عدا ذلك ستعتبر مباحة، وربما انتقلت إلى أن تكون مطلوبة الفعل أو مطلوبة الترك؛ إذا تحققتْ فيها شروط العمل بالمصلحة المرسلة أو سدِّ الذرائع على التفصيل المبيَّن في كُتُب أهل العلم.

وستكون البدع في الدِّين عنده كلها محرمة، وتكون ذرائع البدعة في الدِّين مكروهة.

إذًا هذا التقسيم في حدِّ ذاته ليس هو بيت القصيد، بقَدْر ما أن الخلاف في لزوم اتباع السُّنَّة التركية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العبادات، وأنَّ فِعْل ما لم يفعله -صلى الله عليه وسلم- بدعة مذمومة في الدِّين.

وليس أدل على ذلك: مِن أثر عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- الذي رواه الدرامي، قال: "أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَنبَأَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا نَجْلِسُ عَلَى بَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، فَإِذَا خَرَجَ، مَشَيْنَا مَعَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَجَاءَنَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَقَالَ: أَخَرَجَ إِلَيْكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قُلْنَا: لَا، بَعْدُ، فَجَلَسَ مَعَنَا حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ، قُمْنَا إِلَيْهِ جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ آنِفًا أَمْرًا أَنْكَرْتُهُ وَلَمْ أَرَ -وَالْحَمْدُ لِلَّهِ- إِلَّا خَيْرًا، قَالَ: فَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: إِنْ عِشْتَ فَسَتَرَاهُ، قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَوْمًا حِلَقًا جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ فِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ، وَفِي أَيْدِيهِمْ حصًا، فَيَقُولُ: كَبِّرُوا مِائَةً، فَيُكَبِّرُونَ مِائَةً، فَيَقُولُ: هَلِّلُوا مِائَةً، فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً، وَيَقُولُ: سَبِّحُوا مِائَةً، فَيُسَبِّحُونَ مِائَةً، قَالَ: فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ لَهُمْ شَيْئًا انْتِظَارَ رَأْيِكَ أَوِ انْتظارَ أَمْرِكَ، قَالَ: أَفَلَا أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ، وَضَمِنْتَ لَهُمْ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ!

ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَى حَلْقَةً مِنْ تِلْكَ الْحِلَقِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حصًا نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ، قَالَ: فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ، فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ، وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ، هَؤُلَاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ، وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أوْ مُفْتَتِحُو بَابِ ضَلَالَةٍ، قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ. قَالَ: وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَنَا أَنَّ قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَايْمُ اللَّهِ، مَا أَدْرِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ، ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ: رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ" (رواه الدارمي، وصححه الألباني).

فالذكر مشروع، واجتماع الناس له مشروع، ورفع صوت كل واحد منهم بالذكر مشروع، وإنما زاد هؤلاء صفةً؛ أن جعلوا لهم إمامًا، ومع هذا أغلظ لهم ابن مسعود -رضي الله عنه- القول، بل بيَّن لهم النكتة في المسألة، وهي: أنهم بهذا يفتتحون باب ضلالة، فلو تُرِك -أو فتح- الباب؛ لأحدث كلُّ مَن شاء ما شاء، زاعمًا أن في فعله هذا زيادة خير!

ولو طبَّقنا هذا على "بدعة المولد النبوي" ذاتها، ولو رجعنا إلى كلام "الإمام الفاكهاني" فيها، وأنها على درجتين:

الأولى: أن يفعلها الرجل في خاصة نفسه، وعَدَّها مِن المكروهات.

والثانية: ما اعتاده الناس فيها مِن المنكرات، وقد عدَّها وبيَّنها، ورغم تَعَقُّب "الإمام السيوطي" له؛ إلا أنه أقرَّه على أن الصورة التي تحدث فيها هذه المنكرات صورة منكرة.

وهكذا نرى في عامة البدع أنها تكاد تقع بصورةٍ يتَّفق الجميع على نكارتها، ثم يدافع بعض العلماء عن صورة نظرية لا تكاد توجد إلا في أذهانهم هم! فمعظم مَن تجادله -مثلًا- مِن رؤوس التصوف في بدعة بناء المساجد على القبور، يقول: "إنه لا يرى الطواف حولها، ولا التمسُّح بها، ولا النذر لها"، مع أن الواقع يقول: إنها لا تكاد تقصد إلا لهذا! وإن الغالبية الساحقة ممَّن يزور تلك المساجد إنما يزورها مِن أجل تلك المنكرات التي يتبرؤون منها.

وهذه طبيعة البدع؛ ولذلك حسم النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرها، وطبَّق الصحابة هذا الأمر بشدةٍ وحزمٍ، وبالتالي: لم تُعرَف تلك البدع إلا بعد انقضاء عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، بل وعصر التابعين وتابعيهم.

تنبيه:

بعض مَن يدرسون الفقه المذهبي يكاد يبلغ بهم التطرُّف في فهم مسألة مذاهب الأئمة إلى اعتبار كلِّ مذهب وكأنه دينٌ مستقلٌ، وبالتالي يقول: عليك أن تختار إذا أردتَ أن تناقِش قضية البدع: هل ستناقشها بأصول المالكية أم بأصول الشافعية؟!

ويرتِّب على هذا: أنه لا مجالَ للنقاش بين الفريقين بناءً على وجود الدليل مِن عدمه! (وفي المقالة السابقة: وجدنا كيف ردَّ السيوطي الشافعي على الفاكهاني المالكي، واعترض عليه في أمورٍ، ووافقه في أمور، وهذه طريقة العلماء في باب البدع، وفي غيره، وبلا شك في ثنايا المناظرة؛ لو كانت المسألة فرعًا على مسألة أصولية، فسوف يقرُّ كلُّ طرفٍ القاعدة التي يراها صوابًا، ثم يطبِّقها في المسألة محل النزاع؛ هذا على أن السيوطي نظرًا لانتمائه المذهبي لا يُعَدُّ مِن المتجردين في المسألة، ومع هذا ناقش نقاشًا علميًّا، بل وأقر الفاكهاني على كثيرٍ مِن الجزئيات -كما ذكرنا-).

تناقضات أصحاب المولد:

بعد هذا التذكير بشيءٍ مما سبق بيانه في المقالة السابقة، دعونا نقف عند مظاهر تناقض واضحة عند كثيرٍ مِن دُعَاة الاحتفال بالمولد؛ بدعوى كونه مِن البدعة الحسنة.

موقع البدعة الحسنة على فرض وجودها كحكم تكليفي:

كما هو واضح: أن مصطلح "البدعة الحسنة" ليس قسمًا مِن أقسام الحكم التكليفي، وإنما سنعرف مِن سياق كلام مَن يقول بها في العبادات: أنهم غالبًا ما يلحقونه بالمستحب، وحيث إن العلماء غالبًا ما يقسِّمون المستحب إلى رُتَبٍ تختلف أسماؤها مِن مذهب إلى آخر؛ إلا أن المذاهب تكاد تتفق على أن المستحبات تتأكد كلما قوي دليلها، وكثرت مواظبة النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها.

وحيث إن البدعة الحسنة شيء لم يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فضلًا على أن يواظِب عليه، ودليله -كما رأيتَ- هو في غاية الضعف -إن عددناه دليلًا-، فالطبيعي أن تكون رُتْبَة هذه الأمور عند أصحابها تالية لرتبة المستحبات التي فعلها النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو أمر بها؛ ولذلك كانت البدع مرتبطة باهل التنطع والغلو الذين يريدون أن يزيدوا على المشروع، كما في قصة الثلاثة الذين سألوا أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم- فكأنهم تقالوها، فقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ، فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- إليهِم، فَقالَ: (أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي) (متفق عليه).

ولكن المُشَاهَد: أن كثيرًا ممَّن يتحمَّس غاية التحمس لهذه البدعة متكاسل عن الدعوة، بل عن العمل بكثيرٍ مِن السُّنن، بل مثبِّط عنها، بل متكاسل عن الدفاع عن مجمل سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل عن شريعته بصفةٍ عامةٍ!

جَلَدٌ في الدِّفَاع عن البدعة، وتكاسل في الدِّفَاع عن السُّنَّة!:

تُقَام مهرجانات للعري، فينكر العامة، ويسكت كثيرٌ مِن العلماء الدَّاعين إلى الاحتفال بالمولد، فيرد بعضُهم على العوام: إن إنكارهم للمنكر تخلُّف ورجعية، ودُعَاة المولد في مولدهم!

- يرفع بعض الجهلاء قضايا تطالِب بمنع تدريس البخاري، أو تنقيته -بزعمهم!- مِن الأحاديث المكذوبة، وكثيرٌ مِن دُعَاة المولد في مولدهم!

- كثير مِن دُعَاة المولد إذا سُئِل عن إطلاق اللحية، قال: "مستحب"، فإذا اعتبرنا أنه قال بالاستحباب فقط دون الوجوب تقليدًا لما يفتي به بعض الشافعية -رغم أن المذاهب الثلاثة يفتون بالوجوب، وكذلك كثيرٌ مِن الشافعية- فلا بأس تنزُّلًا؛ أما وهو يجتهد في الدعوة إلى ما أحدثه الناس بدعوى أنه بدعة حسنة، فما موقفه مما أمرَ به النبي -صلى الله عليه وسلم- وحَضَّ عليه، وإن قَلَّد مَن يقول باستحبابه فقط؟!

- أحد كبار دُعَاة المولد سُئِل عن ختان الإناث، فقال: "إن وجوده في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعني أنه أقرَّه! (في سابقة لا نظن أنه قال أحدٌ مِن أهل العلم بمثلها قط!)"، وهو مع هذا يجوِّز ما لا لم يقره النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا كان في زمنه، ولا زمن أصحابه -رضي الله عنهم-.

- كثيرٌ مِن دُعَاة المولد إذا سُئِل عن النقاب يقول: "هو عادة، وليس بعبادة!"، مع إجماع الأمة على أنه كان زي أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن-، وأنه ظل زي الأمة ككلٍ حتى جاء الاحتلال، والناس يتداولون صورًا فوتوغرافية لنساء القاهرة في أوائل القرن العشرين، وهن منتقبات.

مع أن علماء الأمة اختلفوا في ستر المرأة لوجهها وكفيها، فمِن قائل بالوجوب، وقائل بالاستحباب، ولكن لو تنزَّلنا معهم مِن أنه عادة، فلا مناصَ مِن القول بأن أمهات المؤمنين استحسنَّها، وبل ونساء الأمة كلها عَبْر قرونٍ طويلةٍ؛ فكيف يمكن لأحدٍ أن يستحسن ما أحدثه هو، بينما لا يرى ما استحسنَّه أمهات المؤمنين (لو تنزَّلنا، وقلنا: لم يكن إلا عادة) صالحًا لجعله مطلوبًا ومشروعًا!

أهل المولد ولزوم الإيمان به -صلى الله عليه وسلم-:

اتَّفق أهلُ السُّنة على أن مفتاح الدخول في الإسلام، هو: "شهادة أن لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، وأنه ما لم يأتِ العبدُ بها؛ فليس بمسلمٍ، وهذا أيضًا قول الأشاعرة، وبل وقول المعتزلة كذلك.

فإجماع الأمة على أنَّ مَن كذَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو كافر؛ سواء أكان قبل بلوغه خبر النبي -صلى الله عليه وسلم- موحِّدًا كأمية بن أبي الصلت، أو كان مَن بدَّل وحرَّف مِن أهل الكتاب: كغالب مَن كانوا قَبْل بعثته -صلى الله عليه وسلم- مِن اليهود والنصارى، وقد قال -تعالى-: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (البقرة:89).

ولذلك ناظر النبي -صلى الله عليه وسلم- اليهود، وناظر نصارى نجران، وأمره ربه أن يدعوهم إلى المباهلة؛ فأبوا، وبالطبع هؤلاء كفار بشهادة: "أن لا إله إلا الله"، ولكن البعض -تلبيسًا- ادَّعى: أن إيمانهم بوجود الله كافٍ في أن يُوصَفوا بأنهم أتوا بها! ومع هذا فمَن أَتَى بها ولم يأتِ معها بشهادة: "محمد رسول الله"؛ فهو كافر بإجماع الأمة -كما بيَّنَّا-؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، ‌لَا ‌يَسْمَعُ ‌بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم).

والعجيب: أن القومَ ينقمون على مَن لم يشاركهم الاحتفال في يوم 12 ربيع الأول مِن كلِّ عام، وإن كان يُعَظِّم يوم الاثنين مِن كلِّ أسبوع، وهو يعني أنه يفوقهم 50 ضعفًا، ولكنهم مع ذلك يتهمونه بأنه لا يحب النبي -صلى الله عليه وسلم-! ثم إنك تجد كثيرًا منهم يريد أن يمنح الإيمان لمَن كَفَر بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وكذَّب به!

ولا نتكلم هنا عن العدل والإنصاف، والوفاء بالذمة؛ فكلُّ هذا مِن دِين الله -تعالى-، ومِن سُنَّةِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وإنما نتحدث عمَّن يُخَالِف المعلوم مِن الدِّين بالضرورة مِن أن الإسلام: "أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله".

وقد يزعم الزاعمُ: أنه يمكن أن يوجدَ مِن غير المسلمين مَن لا يكذِّب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذه سفسطة عقيمة، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إنه رسول من عند الله، وإن الله أنزل عليه قرآنًا، وإن القرآن فيه: (تَبَارَكَ ‌الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (الفرقان:1).

والمسلمون يوقنون بذلك -بفضل الله تعالى-، وبالتالي: فكلُّ مَن لم يدخل في الإسلام ممَّن بلغته دعوة الإسلام؛ فهو كافر (ودعوة الإسلام بلغتْ كلَّ الدنيا، ولا مجال هنا للكلام عن احتمال وجود قبيلة منعزلة في غاباتٍ استوائيةٍ، أو جزرٍ في المحيط؛ فهؤلاء حكمهم حكم أهل الفترة).

وأما كلُّ مَن سَمِع بخبر النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فلا يخرج عن حالاتٍ:

الأولى: "الإعراض":

الإعراض عمَّن يحذِّر المرء مِن شأن عظيم، وخطر كبير هو نوع من التكذيب، أو احتقار الشأن، بل لعله أفدح، وعلى كلٍّ فالمعرض قد أغلق على نفسه الباب إلى أن يكون مصدِّقًا؛ فكيف يوصف بالتصديق، بل بالإيمان، وقد قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) (الأحقاف:3).

الثانية: التكذيب:

يعني يسمع الدعوة ثم يكذبها، وقد قال الله في شأن مَن كذَّب رسوله -صلى الله عليه وسلم-، (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ‌فَقَدْ ‌كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (فاطر:4).

الثالثة: الجحود:

فإن استمع للحجة وصدَّقها بقلبه، فقد يقر ويتابع، وقد يمنعه الحسد فيكذب بلسانه رغم ما في قلبه من تصديق، وقد قال -تعالى- عن فرعون وقومه: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (النمل:14).

الرابعة:

فإن استمع وصدَّق بقلبه وأقر بلسانه بصدق الدعوى، فقد ينضوي تحت لوائها -وهذا هو المسلم-، وقد يأبى لحسدٍ أو لكِبْرٍ، أو لغير ذلك من الأسباب، قال -تعالى-: (إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة:34).

وهذا يشمل كلُّ مَن اعتذر بأي عذرٍ، كأن يقول: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- رسولٌ للعرب فقط، فكل مَن لم يؤمن أنه -صلى الله عليه وسلم- مبعوث للعالمين؛ فهو مكذِّب له؛ ولذلك كانت هذه النقطة في حدِّ ذاتها فادحة، ومخالفة للمعلوم مِن الدِّين بالضرورة، ثم صدورها ممَّن يُظنُّ به المُبَالَغَة في إظهار محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- يُعَد مِن أعجب التناقضات!

كل هذه التناقضات تذكرنا بقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة".

وقول الحسن -رحمه الله-: "عمل قليل في سنة، خير من عمل كثير في بدعة".

نسأل الله أن يوفِّق جميعَ المسلمين إلى العمل بكتابه وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.