الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 26 أغسطس 2021 - 18 محرم 1443هـ

وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ

كتبه/ محمد خلف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "مَا مَسِسْتُ حَرِيرًا وَلاَ دِيبَاجًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلاَ شَمِمْتُ رِيحًا قَطُّ أَوْ عَرْفًا قَطُّ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ أَوْ عَرْفِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (متفق عليه)، وقال: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ، وَلاَ: لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلاَ: أَلَّا صَنَعْتَ" (متفق عليه).

فأبرز هذا الحديث عظيم شمائله -صلى الله عليه وسلم-، فمنها: كمال صفاته الجسدية كما أخبرنا بها أنس -رضي الله عنه- أنه ما لمست يده حريرًا ولا ديباجًا -وهو الحرير الغليظ- ولا أي شيء ألين من كفِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ هذا مع قوة في البدن، كما ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح فقال: "وفي حديث هند بن أبي هالة الذي أخرجه الترمذي في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن فيه أنه: كان شئن الكفين والقدمين، أي: غليظهما في خشونة... والجمع بينهما أن المراد: اللين في الجلد، والغلظ في العظام، فيجتمع له نعومة البدن وقوته" (انتهى).

وذكر حديث جانبًا آخر عظيمًا، وهو: كمال صفاته الخُلُقية -صلى الله عليه وسلم-، ويكفيه في ذلك شهادة ربه -سبحانه وبحمده- له، قال الله -تعالى-: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).

وذكر أنس -رضي الله عنه- أمرًا هو غاية في العجب، فقال: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ" (متفق عليه). وأُفٍّ: كلمة تدل على التبرم والملل، والتَكَرُّه، فحتى هذه الكلمة لم يقولها له مع ما هو حاصل ومتوقع -ولا شك- مِن التقصير مِن أي أحدٍ؛ لا سيما مع طول المدة.

وقال أيضًا -رضي الله عنه-: " وَلاَ: لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلاَ: أَلَّا صَنَعْتَ": يعني أنه -صلى الله عليه وسلم- طيلة عشر سنوات لم يلومه ولم يعاتبه على خطأ فعله أنس حتى بالقول، فلم يقل له: لِمَ فعلت كذا؟! ولا فيما لم يفعله مما يأمره به هو -صلى الله عليه وسلم-: ألا فعلت كذا؟! وهذا مع هذه المدة الطويلة؛ فلم يصدر منه -صلى الله عليه وسلم- أي شيء من هذا.

وهذا السلوك يبرز لك رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتواضعه وسمو أخلاقه، وهذا مع مَن يخدمه أيضًا يزيد عجبك، رغم ما كان عليه خال الخدم في ذلك التوقيت، بل وحتى هذا في واقعنا المعاصر، وإن تغيَّر وتحضر بعض الشيء، لكن لن يصل أحدٌ إلى ما وصل إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- في معاملته معهم؛ رحمة، رُقيًّا؛ فهو الرحمة المهداة -عليه الصلاة والسلام-؛ فراعى ضعفهم وحاجتهم، ورفع مِن شأنهم فجعلهم في درجة الأخ، وذكَّرهم بنعمة ربهم عليهم؛ أنه -سبحانه- الذي رزقهم هؤلاء الخدم، فيشكرون الله فيهم لا أن يظلموهم ويتكبروا عليهم كما في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ).

والخَوَل -بفتح المعجمة والواو-: هم الخدم؛ سموا بذلك؛ لأنهم يتخولون الأمور، أي: يصلحونها، ومنه: الخولي لمَن يقوم بإصلاح البستان. (انظر فتح الباري).

ومثل ذلك لا يصدر إلا مِن نفس كريمة سامية، فهو الذي كان خلقه القرآن، فوصل إلى أسمى وأكمل المنازل في سائر أخلاقه وأفعاله -صلى الله عليه وسلم-.

وهذا نزر قليل من رحمته ورأفته وتواضعه -صلى الله عليه وسلم- مع الضعفاء والمحتاجين، فصلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين.