الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 18 يوليه 2021 - 8 ذو الحجة 1442هـ

بعث الشوق والحنين لبيت الله والبلد الأمين

كتبه/ عبد الرحمن راضي العماري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلما فاح عبير العشر من ذي الحجة، وقربت أيام المناسك هفت النفوس، وحنت القلوب لشعيرة الحج؛ تلك الشعيرة العظيمة التي شرعها الله لعبادة، وشرَّف إبراهيم -عليه السلام- بدعوة الناس لها ومِن بعده محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلبوا نداء إبراهيم ومحمد -عليهما الصلاة والسلام-.

 فقد أسمع الله أذان إبراهيم ونداء محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قال: (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا) (رواه مسلم).

وشرع الله الحج للناس لحكمٍ عظيمةٍ، منها: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (الحج:28).

والأيام المعلومات: أيام العشر من ذي الحجة التي تقام فيها مناسك الحج وعبادته التي تضمنت التسليم والتعظيم لله -سبحانه وتعالى-، وقد استجاب الله -سبحانه- دعاء إبراهيم -عليه السلام- حين قال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:37).

قال السعدي -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ): "أي: تحبهم، وتحب الموضع الذي هم ساكنون فيه".

ثم قال: "وافترض الله حج هذا البيت الذي أسكن به ذرية إبراهيم، وجعل فيه سرًّا عجيبًا جاذبًا للقلوب؛ فهي تحجه ولا تقضي منه وطرًا على الدوام، بل كلما أكثر العبد التردد إليه ازداد شوقه وعظم ولعه وتوقه".

ثم إن بعث الشوق وتجديده في هذه الأيام وإن كان حاصلًا بمجرد دخولها بما يحصل من تداول الحديث عن الحج وسعي بعض الناس لأدائه؛ إلا أن المحب لا يكتفي بهذا، ولكن يزيد مِن شوقه ويكثر من توقه حبًّا ورغبة، وذلك بمطالعة ومدارسة وسماع كل ما يتيسر له عن الحج ومناسكه وفضائله، ينصت إذا سمع تلبية الحجاج ، ويحرص على مشاهدة البيت في التلفاز وغيره، ويعاود سماع شرح أحكام الحج ومدراستها من شدة تعلقه بهذه الشعيرة، وشوقه للبيت الحرام، وما حوله من بقاع مباركة يزورها الحجاج، ويؤدون فيها المناسك.

وما أروع وصف ابن القيم للحجاج حين قال:

ولما رأتْ أبصارُهم بـيـته الـذي         قلوبُ الورى شوقًا إليه تضـرَّمُ

كـأنـهـم لـم يَـنْـصَـبـوا قـطُّ قـبله         لأن شـقـاهم قـد تَرَحَّـلَ عـنـهـمُ

وللمشتاقين إلى البلد الأمين وبيت الله العتيق قصائد وقصص لا تُحْصَى، فما أكثر المشتاقين لهذه البقعة المباركة! بل إن سماع التكبير من الحجاج والتلبية، مما يذيب القلوب القاسية؛ لو تأملوا ما فيها من جمال الامتثال، وسرعة الإقبال على ذي الجلال؛ حبًّا وتعظيمًا، وشوقًا وتقديمًا.

ويزداد هذا الشعور في أيامنا لما وقع مِن بلاء جائحة كورونا: والتي على إثرها اتخذت إجراءات مِن القائمين على المناسك بعدم السماح بالحج من خارج المملكة، فقَلَّت فرص الحج زيادة على ما يكون من تكاليف باهظة لمَن أراد الحج، لكن الله -عز وجل- كريم وَهَّاب.

كم سمعنا عن أناسٍ تيسَّر لهم الحج من حيث لا يحتسبون؛ كانوا في ضيقٍ من العيش وانعدام الاستطاعة، ما يجعل المرء يكاد يجزم بأنهم لن يحجوا، ولكن أكرمهم الله ويسره لهم، وهذا مما يبعث الأمل ويجدد الشوق.

كذلك إن الله -عز وجل- ينظر إلى القلوب، فمَن حَنَّ بصدقٍ واشتاق، وسعى بقدر استطاعته ونوى، فالله -عز وجل- يكافئه على نيته، وهو كالذين قال الله فيهم: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) (التوبة:??).

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الفقراء الذين حُرِموا هذا الجهاد: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: (وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ العُذْر) (متفق عليه).

وقد جعل الله للصادقين في شوقهم وحبهم للوفادة على بيت الله وتلبية ندائه من الأعمال ما يكون لهم سلوى وعوضًا، ومن ذلك: أن يصلي الإنسان الصبح في جماعة ويجلس في مصلاه يذكر الله -تعالى- حتى تطلع الشمس، ثم يصلي ركعتين، فيكون له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة.

وكذلك: التبكير لصلاة الجمعة، فإن مَن يحضر إلى صلاة الجمعة في الساعة الأولى فكأنما قَرَّب بدنة، والبدنة: هي الناقة التي تهدى إلى بيت الله الحرام في الحج والعمرة؛ لهذا المعنى ذهب بعض السلف إلى أن شهود الجمعة يعدل في الأجر حج النافلة؛ قال سعيد بن المسيب -رحمه الله-: "هو أحب إليَّ مِن حجة النافلة".

وكذلك: التطهر في البيت قبل الخروج إلى المسجد لأداء الصلاة في جماعة، فإنه ينال بذلك مثل أجر الحاج.

وغير ذلك من الأعمال التي ورد أنها تعدل الحج أو العمرة، وإن مِن فضل الله أن يجمع المرء بين هذه الفضائل والحج والعمرة؛ فذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء، ويجوز للعبد أن يغبط مثل هؤلاء فيما يتيسر لهم مِن نفقات الحج والعمرة والصدقات.

والخلاصة: لا ينبغي لمحبٍّ ومشتاقٍ أن تمر عليه هذه الأيام دون أن يجدد الشوق في قلبه، ويبعثه ويهيجه لحج بيت الله الحرام.

رزقنا الله وإياكم حجًّا مبرورًا؛ إنه كريم وَهَّاب جواد.

والحمد لله رب العالمين.