الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 07 يوليه 2021 - 27 ذو القعدة 1442هـ

اختصروا المسافات بين القلوب!

كتبه/ وائل رمضان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعن أنس -رضي الله عنه-: "أَنَّ رَجُلًا كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَعْلَمْتَهُ؟) قَالَ: لَا، قَالَ: (أَعْلِمْهُ) قَالَ: فَلَحِقَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ، فَقَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ" (رواه أحمد وأبو دود، وحسنه الألباني).

ما أجملها من عبارة اختصرت المسافات بين القلوب!

وما أعظمها من قاعدة نبوية رَسَمَتْ لنا طريقًا للتعبير عن مشاعرنا لمَن نحب!

النَّاس في زحمة الحياة، وتراكم همومها، وكثرة مشاغلها متباينون في التعبير عن مشاعرهم، ولا يدركون قيمة التعبير عن تلك المشاعر، ويغفلون عن إشعار مَن يحبون بعمق محبتهم لهم، على الرغم من أهمية ذلك، وعظيم أثره عليهم، وشدة احتياجهم له، لقد أصبحت المسافات بين القلوب أبعد من المسافات بين الكواكب، وكل يوم تزداد تلك المسافات بُعْدًا.

لقد عبَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن محبّته لأقرب الناس له، فعبر عن حبه لخديجة -رضي الله عنها- في مواقف كثيرة في حياتها وبعد مماتها، كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: مَا غِرْتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إِلَّا عَلَى خَدِيجَةَ وَإِنِّي لَمْ أُدْرِكْهَا، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ، فَيَقُولُ: (أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ) قَالَتْ: فَأَغْضَبْتُهُ يَوْمًا، فَقُلْتُ: خَدِيجَةَ فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا) (رواه مسلم).

كما عبَّر -صلى الله عليه وسلم- عن محبته لعائشةَ -رضي الله عنها- ولأبيها الصديق -رضي الله عنه-، كما رأينا محبته وحنانه لبناته "ولا سيما فاطمة -رضي الله عنها-"، وكذلك محبَّته العظيمة لصحابته، فقال -صلى الله عليه وسلم- يومًا لمعاذ -رضي الله عنه-: (يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وكان -صلى الله عليه وسلم- يضم الحسن -رضي الله عنه- ويقبِّله ثم يقول: (اللهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ وَأَحْبِبْ مَنْ يُحِبُّه) (متفق عليه).

وكذلك عبَّر الصحابة -رضي الله عنهم- عن حبهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- فكان يأتيه الصحابي يخبره -صلى الله عليه وسلم- بمحبته له فيبشره بالجنة، وأنه سيُحشر مع مَن أحبَّه.

نصوص شرعيّةٌ عظيمةٌ، ومواقف عملية كثيرة، تبيِّن وجوب إظهار محبتنا ورحمتنا لمَن نحبّهم؛ فأظهروا مشاعركم بالمحبة والرحمة لأولادكم، وزوجاتكم ووالديكم وأقربائكم وإخوانكم، فإظهارها ليس ضعفًا، بل من الْكِبْر أحيانًا إخفاؤها، ولا سيما وقت الحاجة إليها، فبذل المحبّة للناس حكمة، وليس جهلًا.

ماذا تنتظرون؟!

هل تنتظرون فقد مَن تحبون لُتظهروا لهم مشاعركم بعد فوات الأوان؟!

سارعوا مِن الآن قبل أن تُفرِّق بينكم الأيام، فالدنيا أقصر مما تظنون، ورُبّ فراقٍ يتضاعف ألمه كلما تذكر المُحِبُّ أنه لم يُشعر من أحبَّ بما استَكنَّ في قلبه من مَحبَّة، وما كان يحمله له من صَفو الوداد.

كرِّروا ذلك بين الفينة والفينة، ولا تملّوا، فدفء المحبة يمسح الهموم عن القلوب وقت الشدائد والمحن، وفي وقت الرخاء والسعادة والفرح تُضفي المحبة على القلوب الراحة والطمأنينة، وعند رتابة الحياة تُميط المحبة عن القلوب سآمتها، وتجدد روحها، وتبث فيها حياتها.

أعلنوا حُبّكم في هذا الفضاء الذي لوَّثته الكراهية والبغضاء، لعلكم تُسهمون في تنقيته، فإن ربَّ العزة الودود -تبارك وتعالى- إذا أحب عبدًا أعلن للسماء والأرض بأنه يُحبّه، قال نبينا -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نادَى جِبْرِيلَ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فأحِبَّهُ، فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فيُنادِي جِبْرِيلُ في أهْلِ السَّماءِ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّماءِ، ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في أهْلِ الأرْضِ) (متفق عليه).

لا تخفوا مشاعركم عمَّن تحبون، واختصروا المسافات بين القلوب بطيب الكلام، وجميل الفعال، فكم مِن حبٍّ ضاع أدراج الرياح؛ بسبب صمت قد أطبق على الشفاه!

فسعادة القلب في إعلان الحب ووضوحه، والبوح به لمَن تحب، وإظهار المشاعر الطيبة يلغي المسافات والحدود، والأبعاد الزمانية والمكانية، وصدق ابن القيم -رحمه الله- حين قال: "إذا تقاربت القلوب فلا يضر تباعد الأبدان".