الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 15 مارس 2008 - 7 ربيع الأول 1429هـ

الاختلاط قبل كشكول المحاضرات

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

خلق الله الذكر والأنثى، وخلق فيهما ميل كل واحد منهما للآخر؛ لحكمة عالية قضاها في أن يكون ذلك الميل دافعًا ذاتيًّا لتكوين الأسر وتحمل تبعات ذلك، ولتكون هذه الأسر هي نواة المجتمع الكبير، ومن أسرار الله في خلقه والتي لا يكاد العقل البشري أن يدركها إلا بعد أن ينبهه الشرع لها أن هذا الميل -الذي هو نوع من التوتر- لا يحصل له استقرار إلا متى أشبع من خلال الزواج، والزواج فقط.

ولذلك وصفه الله -تعالى- بأنه سكن حيث يقول: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21)، وأما إشباع هذا الميل عن طريق الزنا فهو لا يزيد القلب إلا اشتعالاً، والنفس إلا اضطرابًا، ولذلك وصفه الله -تعالى- بقوله: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) (الإسراء:32).

ولذلك؛ لم يرد ذكر الرجال والنساء خارج علاقة الزواج إلا على سبيل الفتنة كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ) (رواه مسلم)، وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِيَ أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ) (متفق عليه).

وكلمة "الفتنة" تحمل بأصل وضعها اللغوي معنى: الشدة والاشتعال، ولذلك؛ كان قرب الرجل من المرأة من باب: "وضع النفط بجوار النار" كما يقولون في الأمثال.

ومن هنا جاء الشرع بسد كل الذرائع المؤدية إلى اشتعال هذه الفتنة، والتي تتمثل في إبعاد الرجال عن النساء حتى في الصلاة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا) (رواه مسلم).

ومتى اقتضت الضرورة أو الحاجة الماسة شيئًا من التعامل؛ فليكن مع حفظ العورة، وغض السمع والبصر، وكف اليد عن اللمس، وقد بالغ النبي -صلى الله عليه وسلم- في النهي عن ذلك كله واصفًا هذا كله "بالزنا"؛ تنفيرًا عنه وتذكيرًا بأن هذه الأمور وسائل وذرائع تؤدي إلى الزنا، وإن لم تؤدي مع واحدٍ؛ أدت مع غيره، وفي ذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: (كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَى مُدْرِكٌ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا: النَّظَرُ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا: الاِسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ: زِنَاهُ الْكَلاَمُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا: الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا: الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ) (متفق عليه).

وقد عملت الأمة بهذه التوجيهات النبوية؛ فكان في ذلك سبب لقوة عزيمة أبنائها وصفاء روح بناتها، فكانت أمة منتجة بحق عن طريق تكوين الأسر الصالحة من هؤلاء الشباب والفتيات، ثم إنجاب الذرية وتربيتها على هذه الأخلاق وغيرها من الأخلاق الإسلامية، ومن ثمَّ كان النصر حليفها في كل معاركها، مما دعا أمة "الروم" أن يُفرِّغوا عددًا من أذكيائهم لدراسة أسباب قوة المسلمين وتماسكهم فيما عرف بـ"الاستشراق"، ووصل هؤلاء إلى كثير من أسباب قوة المسلمين.

ووعوا أقوامهم إلى أن يعملوا على تحطيم جوانب القوة في الأمة الإسلامية ومنها: جانب الفضيلة، وفي ذلك يقول أحدهم: "كأس وغانية تفعلان في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ما لا يفعله ألف مدفع".

وبالفعل جاءت "الحملة الفرنسية" إلى "مصر" ومعها الكأس والغانية جنبًا إلى جنب مع المدفع، وكاد القوم أن يفلحوا في نشر كؤوسهم وغوانيهم في بلاد المسلمين، لولا أن قيض الله لهذا الدين أقوامًا استعملهم في الصمود أمام هذه الموجة من الفسق والفجور، ولكن الأعداء لا ييأسون، فإذا كانت الأمة قد رفضت -بحمد الله- تلك الصورة الفجة من الفسق؛ فلا بأس بأن يقدموا صورة هي أقل شرًّا، ولكن هذا سوف يجعل عدد القابلين لها أكثر.

ومن هنا رحلت "الحملة الفرنسية" عن "مصر" تاركة فيها أذنابًا يدعون إلى مخالطة المرأة للرجل في ميدان الدراسة والعمل والسياسة والرياضة، كل ذلك مع التبرج والخضوع بالقول من المرأة والنظرة الجريئة والثناء المكشوف من الرجل، وأما المصافحة فواجب اجتماعي وربما تطور الأمر عند المستغرقين في التبعية للغرب إلى السهر والمراقصة، وأما الأوساط التي ما زالت تحتفظ ببقية من دين أو حياء فالأمر في حاجة إلى "مبرر شريف" من بيع أو شراء أو نحو ذلك؛ ليكون بابًا إلى تبادل النظرات والهمسات.

وفي سن الشباب حيث الشهوة على أشدها، جاء الشيطان بحيلة هي من أعظم حيله، ألا وهي: "كشكول المحاضرات".

ولقد استدعى الأمر في أوله جيوشًا جرارة من الصحافيين والمصورين؛ ليصوروا الفتيات الجريئات السابقات لعصرهن واللاتي قبلن بتبادل "كشكول المحاضرات" مع زملائهم من الطلاب، وقديمًا قال الشاعر:

نظرة فابتسامة فسلام         فكلام فموعد فلقاء

فصار في عرف "الجامعة" تبادل "الكشكول" في قاعة الدرس، ثم في فناء الكلية ثم في مطعمها ثم في المتنزهات وهكذا... وإلى أن يصرح كل طرف للآخر بحبه على طريقة الأفلام السينمائية، أو يهدي له وردة في "عيد الحب" على طريقة "القنوات الفضائية"! ولا بأس أن تُدَس داخل "الكشكول" لمن بقي عنده أو بقيت عندها بقية من حياء.

قد تندهش من هذا المكر والكيد العجيب من شياطين الجن والإنس، ولكن يبقى أولاً وأخرًا ضعيفًا؛ لأنه من كيد الشيطان (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) (النساء:76)، وأحد عوامل ضعفه أنه متكرر لا يدخل إلا على من لم يعتبر بالسنن الشرعية والسنن الكونية، وإليك هذه القصة الطريفة من السيرة؛ لترى كيف كان الشيطان يصنع؛ لإيقاع ضحاياه في فتنة النساء في مجتمع عربي ورث مروءة وشهامة تمنع الرجل من الوقوع في عرض جيرانه، وإن لم تمنعهم من الوقوع في أعراض غيرهم.

روى "الطبراني" بإسناد رجاله ثقات: "أن خوات بن جبير -رضي الله عنه- كان جالسًا إلى نسوة من بني كعب بطريق "مكة" فطلع عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" والظاهر من السياق أن ذلك قبل إسلام خوات -رضي الله عنه-، وقبل هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا أبا عبد الله مالك مع النسوة) وتأمل في إنكار الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى مع الكافر حرصًا على منع انتشار الفساد.

فقال: "يفتلن ضفيرًا لجمل لي شرود" ولم يكن صادقًا في ذلك كحال صاحب "كشكول المحاضرات" في زماننا، وعلى كل ففتل الحبل لا يقتضي أن يجلس معهن إلى أن يفرغن منه وربما لا يفرغن إذا طاب المجلس كما لا يفرغ الطلاب من نقل المحاضرة الأولى حتى ينتهي العام وأحيانًا إلى أن يصبح زميله أستاذًا عليه، و"الكشكول" ما زال يروح ويجيء على أمل الانتهاء من نقل "المحاضرة الأولى"! يقول -رضي الله عنه-:

"ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحاجته ثم عاد، فقال: (يا أبا عبد الله، أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد) قال: "فسكت واستحييت" سبحان الله هذا على كفره آنذاك يستحي من أن يجادل عن جلسته تلك بعد مرتين فقط، وشباب المسلمين يظل يجادل ويجادل إلى آخر فرصة من مرات الرسوب-.

يقول -رضي الله عنه-: "وكنت بعد ذلك أتفرر منه كلما رأيته؛ حياء منه حتى قدمت المدينة" أي: مسلمًا "وبعد ما قدمت رآني في المسجد يومًا أصلي، فجلس إلي فطولت فقال: (لا تطول فإني أنتظرك) فلما سلمت قال: (يا أبا عبد الله، أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد) فسكت واستحييت، فقام وكنت بعد ذلك أتفرر منه حتى لحقني يومًا وهو على حمار، فقال: (يا أبا عبد الله، أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد) فقلت: والذي بعثك بالحق ما شرد منذ أسلمت، فقال: (الله أكبر، الله أكبر، اللهم اهد أبا عبد الله) فأسلم وحسن إسلامه وهداه الله (رواه الطبراني في "الكبير" وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" وقال العراقي في "تخريج الإحياء": رجاله ثقات).

فانظر إلى تفقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لتخلص كل من أسلم من رواسب الجاهلية، وعاداتها الفاسدة، بينما يظل أبناء المسلمين في زماننا يتشربون من مستنقعات الجاهلية الآسنة، ولا يوجد من يذكرهم ويقول لهم: "أما ترك ذلك الكشكول الذهاب والإياب بعد؟!".

نسأل الله -تعالى- أن يهدينا ويهدي بنا.