الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 08 فبراير 2020 - 14 جمادى الثانية 1441هـ

مظاهر القسوة في المجتمع أسباب وعلاج (16) الاضطرابات الأسرية

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلما كانت الانحرافات الأسرية مِن أكبر أسباب انحرافات الشخصية خاصة في نشأتها الأولى؛ كان توجيه الشريعة نحو المحافظة على الاستقرار، ومنع انهيار الأسرة، وتفرق الزوجين؛ فبعد أن بيَّن الله -سبحانه- كيفية إدارة سفينة الحياة الزوجية تحت قيادة الرجل بكمال عقله، وكمال دينه وبإنفاقه المستمر على الأسرة في أول تكوينها، واستمرار وجودها، وبطاعة المرأة الصالحة لربها، ومن ضمن ذلك وأهم أساسياته في بقاء الأسرة؛ طاعتها لزوجها فيما يلزمها من طاعته في غير معصية الله، وحفظها لنفسها وماله وأولادها في غياب الزوج، وكذا حفظ أسرار ما يجري بين الزوجين؛ خاصة في العلاقات الحميمة - بيَّن -سبحانه- كيفية معالجة الخلل المتوقع مِن أول بوادره قبل استفحاله؛ إذا كان من قِبَل المرأة بأن ارتفعت الزوجة على زوجها، وتعالت على طاعته؛ فنشزت وذلك بالموعظة الحسنة، ثم بالهجران إن لم تُجدِ ولم تنجح الموعظة الحسنة.

وبمراتب الهجران المختلفة: مِن الهجران في الفراش بأن يوليها ظهره، ثم ينتقل إلى هجران الجماع، وهجران الكلام وهو لا يزال في الفراش، ثم الهجران في البيت في مكان آخر غير فراشها، ثم الهجران خارج البيت إذا لزم الأمر؛ فإذا لم ترجع الزوجة إلى الطاعة -وهذا غالبًا شيء نادر، وإنما يحدث من الزوجة العنيدة التي ترى نفسها ندًّا لزوجها، فهي تحتاج تربويًّا إلى كسر عنادها وتربيتها- شَرَعَ اللهُ -عز وجل- الضرب في هذه الحالة، وقد اشترط الشرع فيه أن يكون غير مبرح؛ أي غير مؤثر؛ فلا يكسر عظمًا، ولا يجرح جلدًا؛ فضلًا عما تحته، ولا يُحدِث شينًا؛ أي: علامة مستمرة من شدة ضربه.

ثم بعد ذلك قبل أن يصل الأمر إلى الطلاق؛ شرع الله أمر التحكيم، وهذا الترتيب البديع يدلنا على شدة تأكيد الشريعة على تأخير الطلاق كحل أخير إذا لم تُفلح الحلول السابقة، وكل ذلك لأهمية استقرار الأسرة وتجنيبها الاضطراب؛ لتبقى السكينة والمودة والرحمة الضرورية لحسن تربية الأولاد، وتجنيبهم الانحرافات الشخصية، قال الله -تعالى- في بيان التحكيم: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) (النساء:35).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "ذكر الحال الأول، وهو إذا كان النفور والنشوز من الزوجة، ثم ذكر الحال الثاني وهو إذا كان النفور من الزوجين، فقال -تعالى-: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا). قال الفقهاء: إذا وقع الشقاق بين الزوجين؛ أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ينظر في أمرهما، ويمنع الظالم منهما من الظلم؛ فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما؛ بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة، وثقة من قوم الرجل؛ ليجتمعا فينظرا في أمرهما، ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق، وتشوف الشارع إلى التوفيق؛ ولهذا قال -تعالى-: (إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)" (يعني لم يذكر -سبحانه- التفريق وإن كان يُفهم بمفهوم المخالفة؛ إلا أن المنطوق بالإصلاح يظهر منه أن الإرادة في الإصلاح مقدمة على التفريق).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "أمر الله -عز وجل- أن يبعثوا رجلًا صالحًا من أهل الرجل، ورجلًا مثله من أهل المرأة، فينظران أيهما المسيء؛ فإن كان الرجل هو المسيء؛ حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة؛ وإن كانت المرأة هي المسيئة؛ قصروها على زوجها ومنعوها النفقة؛ فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يُجمِّعا؛ فأمرهما جائز؛ فإن رأيا أن يُجمِّعا؛ فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر ثم مات أحدهما؛ فإن الذي رضي يرث الذي كره، ولا يرث الكاره الراضي". رواه ابن أبي حاتم وابن جرير".

قلتُ: (ما ذكره من عدم الإرث -رغم عدم الطلاق أو الخلع- غريب، والظاهر أن العلاقة الزوجية طالما بقيت مستمرة؛ فإن الإرث حاصل بنص القرآن، ولا يُصلح هذا مخصصًا).

قال ابن كثير -رحمه الله: "قال عبد الرزاق بسنده عن ابن عباس قال: "بُعثت أنا ومعاوية حكمين، قال معمر: بلغني أن عثمان بعثهما، وقال لهما: إن رأيتما أن تُجمِّعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما؛ ففرقا".

وروى بسند آخر عن ابن أبي مليكة "أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت: تصير إليَّ وأُنفق عليك، فكان إذا دخل عليها قالت: أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة؟ قال: على يسارك في النار -إذا دخلت-؛ فشدت عليها ثيابها فجاءت عثمان؛ فذكرت له ذلك فضحك فأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس: لأفرقن بينهما، فقال معاوية: ما كنت لأفرق بين شخصين من بني عبد مناف؛ فأتياهما فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما فرجعا".

وقال عبد الرزاق بسنده عن عبيدة قال: "شهدت عليًّا وجاءته امرأة وزوجها، مع كل واحد منهما فئام من الناس، فأخرج هؤلاء حكمًا وهؤلاء حكمًا، فقال عليٌ للحكمين: أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما إن رأيتما أن تجمعا؛ جمعتما، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله ليَّ وعليَّ، وقال الزوج: أما الفرقة فلا؛ فقال علي: كذبت، والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله -عز وجل- لك وعليك" رواه ابن أبي حاتم".

قلتُ: (وهذا الأثر عن علي -رضي الله عنه- يدل على أنه يرى -كما هو قول جمهور السلف- أن الحكمين يحكمان، وليس أنهما مجرد وكيلين؛ فإنه ألزم الزوجين بأنهما إذا رأيا الفرقة فرَّقا، وهذا هو ظاهر القرآن؛ بأن الله سماهما حكمين، ولم يسمِهما وكيلين؛ وسواء أرسلهما وبعثهما الحاكم، أو بعثهما الزوجان؛ فكل ذلك محتمل؛ فعلى أي حال هما حكمان، وإذا اتفقت كلمتهما على أمرٍ؛ فهو حكم نافذ ولا بد.

 وإن اشترط بعض العلماء أمرَ الحاكم في ذلك، وبعضهم منع من التفريق على الإطلاق، ولا أن يُطلِّق الحاكم على الرجل إلا بإذنه، والصواب أن الحكمين يحكمان بما يريا؛ فإذا رأيا الرجلَ هو الظالم، وامتنع من التزام ما أمراه به من ترك الظلم، ورأيا التفريق فرَّقا تطليقًا للضرر عليه، ويحكم الحاكم بذلك؛ وإن كان الأمر ينفذ بمجرد حكم الحكمين بالتفريق طلاقًا بائنًا للضرر؛ وأما إذا رأيا أن الزوجة هي الناشز، وهي التي حدث بسببها الخصومة والنزاع، وأبت أن تلتزم بطاعة زوجها، والرجوع إلى حسن عشرته؛ فيحكمان بالتفريق خُلعًا، ويباح للزوج أن يأخذ منها مما كان قد أعطاها في المهر فدية؛ لأنها التي تسببت في فساد الحياة الزوجية، وتُلْزم بدفع ذلك؛ لأنها هي التي أفسدت، فالحكمان يحكمان بذلك، ويُلْزِم الحاكم بحكمهما).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "قال الحسن البصري: الحكمان يحكمان في الجمع ولا يحكمان في التفريق، وكذا قال قتادة، وزيد بن أسلم، وبه قال أحمد بن حنبل، وأبو ثور، وداود، ومأخذهم قوله -تعالى-: (إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) ولم يذكر التفريق.

وأما إذا كانا وكيلين من جهة الزوجين؛ فإنه ينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خلاف.

وقد اختلف الأئمة في الحكمين: هل هما منصوبان مِن جهة الحاكم؛ فيحكمان وإن لم يرضَ الزوجان، أم هما وكيلان من جهة الزوجين؟ على قولين: فالجمهور على الأول؛ لقوله -تعالى-: (بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا) فسماهما حكمين، ومِن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه، وهذا ظاهر الآية، والجديد من مذهب الشافعي، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.

القول الثاني منهما لقول علي -رضي الله عنه- للزوج حين قال: أما الفرقة فلا، قال: كذبت، حتى تقرَّ بما أقرت به، قالوا: فلو كانا حاكمين لما افتقر إلى إقرار الزوج، والله أعلم".

قلتُ: (الصحيح أنه ألزمه بالإقرار؛ فإن أبى ألزمهم بالحكم عليه كما في سائر الحقوق إذا أبى الشخص أن يؤديها).

 قال ابن كثير -رحمه الله-: "قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: وأجمع العلماء على أن الحكمين إذا اختلف قولهما فلا عبرة بقول الآخر، وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع وإن لم يوكلهما الزوجان، واختلفوا هل ينفذ قولهما في التفرقة؟ ثم حكى عن الجمهور أنه ينفذ قولهما فيها أيضًا من غير توكيل".

قلتُ: (وهو الصحيح).