الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 24 فبراير 2019 - 19 جمادى الثانية 1440هـ

قضية الاتباع وضرورتها للدعوات الإصلاحية

كتبه/ شريف طه

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلم ينتبه نُقاد "السلفية المعاصِرة" للسياق الذي تبلورت فيه معالم هذا المنهج في العصر الحديث، بدءًا مِن ابن عبد الوهاب، والذي كانت أفكاره تجسيدًا عمليًّا لأفكار ابن تيمية (وتلميذه ابن القيم) النظرية، ورؤاه الإصلاحية.

وقد واجَه هؤلاء المصلحون تركةً ثقيلةً مِن العقائد البالية، والانحرافات الضخمة في العقيدة والعمل والسلوك؛ تتحصن خلف "ترسانة" مِن الفتاوى لفقهاء عصرهم، تسِمهم بخرق الاجماع، ومخالفة الأئمة !

كانت السردية السائدة تقضي بغلق باب الاجتهاد، ووجوب تقليد أحد المذاهب الأربعة، والتي صار تحديدها حكرًا على مجموعةٍ مِن الفقهاء المتأخرين، خلطوا مذاهبهم الفقهية بالبدع العقدية، فلا يحق لطالب العلم النظر في أقوال الأئمة إلا عبر واسطة المتأخرين، فضلًا عن النظر في أقوال الأئمة غير الأربعة، فضلًا عن أقوال الصحابة ولو كانت موثقة مروية بالأسانيد الصحيحة، فضلًا عن النظر في النصوص.

وليس هذا مقتصرًا على العامي الذي لا يُحسِن النظر مطلقًا، ويجب عليه تقليد مَن يثق به مِن العلماء بالاتفاق، ولا حتى ابن عبد الوهاب الذي وسموه بالجهل، ولم يعدوه مِن أهل العلم أصلًا؛ لأنه لم يتبع سرديتهم ولا منظومتهم العلمية! حتى راسلهم أحدهم متحديًا أن يُخرج له ما في سورة العاديات مِن الأوجه البلاغية! وكأن العلم اللازم للدعوة متوقف على مثل هذا!

وإنما حاجوا ابن تيمية وابن القيم بحجة خرق الإجماع، والرجل يحتج عليهم تارة بأقوال الصحابة، وتارة بأن مذاهب الأئمة لا يفهمها كما يلزمه خصومه، أو تحتمل خلافًا على أقل الأحوال، ولكن هيهات! فكيف يحق لابن تيمية أن يفهم قول الشافعي: "أكره أن يُعظم مخلوق؛ فيُبنى على قبره مسجدًا" بأنها الكراهة التحريمية، وما استقر عند فقهاء قومه خلاف ذلك؟! كيف لنا أن نصدق أن مذهب الشافعي في الاستغاثة بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، هو ما يقرره زيني دحلان "مفتي الشافعية في مكة بحسب الترسيم العثماني" أو أن مذهب أحمد هو ما يقرره ابن حميد مفتي الحنابلة في مكة، أو أن مذهب الإمام الأعظم في ذلك هو ما يقرره ابن عابدين في حاشيته، وما يقوله الصاوي هو مذهب مالك الذي كره أن يقول الرجل "زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم"؟!

ومع ذلك لم يندفع هؤلاء المصلحون في ردِّ فعلٍ متطرفٍ، فلم يحرموا التقليد أو التمذهب، ولم يدَّعِ ابن عبد الوهاب الاجتهاد ولا مخالفة الأئمة كما شنَّع عليه خصومه؛ لمجرد أنه خالف ما نسبوه هم للأئمة، ولكن كان لزامًا أمام هذه المنظومة دعوة الناس لاتباع الكتاب والسُّنة، وتقديمهما على كل شيءٍ، وتقييد التقليد بنبذ العصبية، وتبيين الفرق بيْن العامي المحض، ومَن عنده قدرٌ مِن النظر ولو كان في مسألةٍ واحدةٍ، بغض النظر عن الخلاف في القسمة: هل هي ثلاثية (مجتهد ومتبع ومقلد)؟! أم ثنائية: (مجتهد ومقلد)؟ -وهو خلاف عند تحريره يكون اصطلاحيًّا-، وأنه لا يجوز ترك ظواهر النصوص الواضحة الجلية لمجرد قول فلان وعلان ما لم يكن إجماعًا صحيحًا، وهذا -ترسيخ قضية الاتباع- في الحقيقة لازم لكل دعوة إصلاحية، تواجِه انحرافًا صار راسخًا في المجتمع .