كتبه/ نور الدين عيد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
- البناء العلمي في ظلمات الجهل والبدع:
إن مما لا يختلف عليه اثنان: انتشار الجهل بيْن المسلمين، وهذا الجهل أحد أسباب تلاعب عدوهم بهم، وترديهم في مؤخر الصف، وباتوا يبصرون عالمًا متقدمًا في المادة فتفتح له أفواههم، وتفتن به قلوبهم، فيسحبون منهزمين لتقليدهم طواعية، وصدق فيهم ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وَبَاعًا بِبَاعٍ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ دَخَلْتُمْ، وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ ضَاجَعَ أُمَّهُ بِالطَّرِيقِ لَفَعَلْتُمْ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني)، فهذه ثمرة جهل أورث تقليدًا، فالجهل إما بشرع الله الذي هو مصدر عز أمتنا وقوتها، (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (الأنبياء:10).
العلم الفرض:
عن أنسٍ -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
قال الإمام ابن عبد البرِّ: "قد أجمع العلماءُ على أنَّ من العلمِ ما هو فرضٌ متعيَّنٌ على كلِّ امرئٍ في خاصَّة نفسِه، ومنه ما هو فرضٌ على الكفايةِ إذا قام به قائمٌ سقط فرضُه عن أهلِ ذلك الموضعِ، واختلفوا في تلخيصِ ذلك" (جامع بيان العلم).
ثم فصلها ابن قدامة في "منهاج القاصدين" في العقائد والأفعال والتروك، ومنها: ما لا يتم الواجب إلا به مِن علوم الطب، والهندسة والحساب، وما تستقيم به مصالح المسلمين، فهو يتلخص فيما هو متعين يأثم المرء بتركه (وهو الفعل الذي يتلبس به مِن كل عبادة يجب عليه تعلمها بالسؤال وغيره)، ومنها: ما هو كفائي: يجب على المجموع تعلمه؛ فإن قصر الكل أثموا؛ كل حسب درجة تقصيره.
دمعة على التفشي:
وإن مما ينبغي التحذير منه: هذا الجهل بأنواعه وثمراته المرة، خاصة ما يُترجم لعملٍ مستقرٍ ينسب بعد ذلك للشرع، ويتوارثه الناس دينًا مرضيًا! فهذا يبعد بالسحق، وينذر باللعن، فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ، وَيُرْفَعُ الْعِلْمُ)، فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: "يُرْفَعُ الْعِلْمُ"، قَالَ عُمَرُ: "أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ يُنْزَعُ مِنْ صُدُورِ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنْ يَذْهَبُ الْعُلَمَاءُ" (رواه أحمد بسندٍ صحيح).
وعن أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: أَنْ يُرْفَعَ العِلْمُ وَيَثْبُتَ الجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا) (متفق عليه)، فهذه آفات متشابكة ومتقاربة، وإن واقع المسلمين يثبت (وَيَثْبُتَ الجَهْلُ)، حتى إنك ترى زنادقة ينافحون عن نفاقهم على شاشات سوداء، وقاعات ظلماء، وصحف صفراء يبثون الجهل في عموم المسلمين حتى يبعدونهم، ثم يشينونهم بتخلفهم، فهذا دورهم الذي ارتضوه لأنفسهم! فما هو الدور الذي تقوم به في وسط الغم والظلام الحالك؟! أين وقتك المبذول لتعلم دينك؟! وجهادك الليالي في تحرير السُّنة مِن البدعة؟!
أما المنهج العملي للتحصيل: ففي مقال يقرب -بإذن الله- الجليل، فوازن بيْن العلم والبلاغ، وقم بواجب الوقت، والله أسأل ألا يحرمنا شرف الدلالة عليه، والدعوة إليه.
والحمد لله رب العالمين.