الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 15 أغسطس 2017 - 23 ذو القعدة 1438هـ

أحاديث ينبغي أن يتدبرها طالب العلم

كتبه/ محمود أمين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمِن الأحاديث التي جاءت في فضل العلم:

حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) (متفق عليه).

شبَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث الهدى الذي جاء به بالغيث، وهو المطر العام الذي يغيث الناس بعد ما كانوا في شدةٍ وكرب، وذكر فيه أن الأرض ثلاثة أنواع، وكذلك الناس ثلاثة أنواع.

قال الإمام النووي -رحمه الله-: "وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَرْضَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ، وَكَذَلِكَ النَّاسُ: فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ الْأَرْضِ: يَنْتَفِعُ بِالْمَطَرِ، فَيَحْيَى بَعْدَ أَنْ كَانَ مَيْتًا، وَيُنْبِتُ الْكَلَأَ فَتَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ وَالدَّوَابُّ، وَالزَّرْعُ وَغَيْرُهَا، وَكَذَا النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ النَّاسِ يَبْلُغُهُ الهدى وَالْعِلْمُ فَيَحْفَظُهُ فَيَحْيَا قَلْبُهُ، وَيَعْمَلُ بِهِ وَيُعَلِّمُهُ غَيْرَهُ فَيَنْتَفِعُ وَيَنْفَعُ.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْأَرْضِ: مَا لَا تَقْبَلُ الِانْتِفَاعَ فِي نَفْسِهَا، لَكِنْ فِيهَا فَائِدَةٌ، وَهِيَ إِمْسَاكُ الْمَاءِ لِغَيْرِهَا فَيَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ وَالدَّوَابُّ، وَكَذَا النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ النَّاسِ لَهُمْ قُلُوبٌ حَافِظَةٌ، لَكِنْ لَيْسَتْ لَهُمْ أَفْهَامٌ ثَاقِبَةٌ، وَلَا رُسُوخَ لَهُمْ فِي الْعَقْلِ يَسْتَنْبِطُونَ بِهِ الْمَعَانِيَ وَالْأَحْكَامَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمُ اجْتِهَادٌ فِي الطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَهُمْ يَحْفَظُونَهُ حَتَّى يَأْتِيَ طَالِبٌ مُحْتَاجٌ مُتَعَطِّشٌ لِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أَهْلٌ لِلنَّفْعِ وَالِانْتِفَاعِ، فَيَأْخُذَهُ مِنْهُمْ فَيَنْتَفِعَ بِهِ، فَهَؤُلَاءِ نَفَعُوا بِمَا بَلَغَهُمْ.

وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ مِنَ الْأَرْضِ: السِّبَاخُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ وَنَحْوُهَا، فَهِيَ لَا تَنْتَفِعُ بِالْمَاءِ، وَلَا تُمْسِكُهُ لِيَنْتَفِعَ بِهَا غَيْرُهَا، وَكَذَا النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنَ النَّاسِ لَيْسَتْ لَهُمْ قُلُوبٌ حَافِظَةٌ، وَلَا أَفْهَامٌ وَاعِيَةٌ، فَإِذَا سَمِعُوا الْعِلْمَ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلَا يَحْفَظُونَهُ لِنَفْعِ غَيْرِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ" (شرح النووي على مسلم).

فالنوع الأول هو مَن يبلغه العلم فيحفظه ويحيا به قلبه، ويعمل ويعلم؛ فينتفع وينفع، والثاني كما قال الشيخ العثيمين -رحمه الله- مَن يحفظ الحديث ويرويه، لكنه لا يعرف فقهه، ولا يعرف أن يستنبط منه الأحكام.

قال الشيخ العثيمين -رحمه الله-: "الصورة الأولى والثانية للمثل فيمَن قَبِل الحق فعلم وتعلم، ونفع وانتفع، لكن الذين قَبِلوا الحق صاروا قسمين: قسم آتاه الله -تعالى- فقهًا؛ فصار يأخذ الفقه والأحكام الشرعية مِن كتاب الله وسُنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويعلم.

والثاني: رواية، ولكنه ليس عنده ذلك الفقه، يعني يحكي الحديث يرويه يحفظه، ولكنه ليس عنده فقه، وهذا كثير أيضًا؛ ما أكثر رجال الحديث الذين رووا الحديث، لكنهم ليس عندهم فقه، ما هم إلا أوعية يأخذ الناس منهم، ولكن الذي يوزع مِن هذا الماء وينفع الناس به هم الفقهاء" (شرح رياض الصالحين).

فالنوعان الأول والثاني مدحهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن الأول الذي جمع بيْن الحفظ والفقه أفضل مِن الثاني، وأما الثالث فهو مثل المتكبر.

قال الشيخ العثيمين -رحمه الله-: "هؤلاء ما فيهم خير، لم ينتفعوا بوحي الله، ولم يرفعوا به رأسًا -والعياذ بالله-، يكذبون بالخبر ويستكبرون عن الأمر، فهؤلاء هم شر الأقسام. نسأل الله العافية" (شرح رياض الصالحين).

فيا طالب العلم... انظر في نفسك: مِن أي الأقسام أنتَ؟!

وقد جاءت عدة أحاديث تؤكِّد هذا المعنى، منها الحديث الذي رواه زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وعن معاوية -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) (متفق عليه).

وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا) (متفق عليه).

ولذلك مِن الأهمية بمكان أن يهتم الإنسان بالتفقه، وألا تكون همته محدودة في حفظ المتون، مع أن حفظ المتون مِن الوسائل المعينة لطالب العلم؛ إلا أنه قد يستغرق الإنسان وقتًا طويلًا في حفظ بعض المتون، أو ربما حتى في حفظ الأحاديث بينما يجهل كثيرًا مِن الأحكام التي تتعين عليه، وهذا بلا شك مِن الخلل في طريقة التعلم.

وأيضًا مِن الأهمية بمكانٍ أن يدرس الإنسان العلم على يد العلماء حتى ينتفع بفائدة العلم وثمرته، فليس غاية المنال أن يُنهي حفظ كتاب، بل أن يُحسِن فهم المسائل؛ ولذلك فتقصير طلاب العلم اليوم في حضور دروس العلماء أو سماع شروحهم لمَن تعذر له الحضور يحرمه مِن كثيرٍ مِن الخير.

أيضًا العلم الغاية منه: الانتفاع به، لا مجرد حفظ مسائل، كما ورد هذا المعنى في كثيرٍ مِن الأحاديث، منها: ما جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) (رواه مسلم)، وكان مِن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا) (رواه مسلم).

وكم نرى فصامًا بيْن العلم والانتفاع عند الكثيرين، بل تجد مَن جمع العلم أو يتحدث عن المنهجية في طلب العلم، وفي كثير مِن الأحيان يكون في بداية طريقه للتعلم، ثم تجد الخلل الكبير في السلوك، والغيبة والنميمة، واللمز والتنابز بالألقاب، والغلظة والقسوة، والعجب والغرور إلى الحد الذي لم يعد أمرًا خافيًا لا يشق فيه عن الباطن، بل قد احتفتْ به قرائن انتقل معها مِن الباطن إلى الظاهر؛ مما يُجزم معه بوجود الخلل.

وقد يزداد الأمر سوءًا حين ينشغل الإنسان عن إصلاح واقع المسلمين بالعلم الذي يتعلمه، ودفع الشبهات، ونشر العلم بالأحكام الشرعية التي يحتاج إليها الناس، إلى الانشغال بالجدال أو نشر المسائل الغريبة التي لا ينبني عليها كبير عمل، أو لمباهاة العلماء، أو لمماراة السفهاء!

لذلك على طالب العلم أن يتدبر هذه الأحاديث التي وردتْ في فضل العلم، وأن يجتهد في التعلم والتفقه بصدقٍ، وأن يخلص نيته لله -سبحانه وتعالى-، وأن يسأل دائمًا عن ثمرة العلم في نفسه، وفيما حوله.

نسأل الله أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح.