الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الجمعة 09 سبتمبر 2016 - 8 ذو الحجة 1437هـ

دعوة مباركة غيرت وجه الأرض

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ونحن في هذه المحن والفتن، والناس يظنون أن موازين القوى هي مِن الأرض، يدرك المؤمن أن الأمر مِن السماء لا مِن الأرض، فتكون مواقفه مبنية على ابتغاء رضوان الله -عز وجل-، وقد تعجزه أسبابه الضعيفة فلا يجد أوسع وأفضل وأقوى مِن الدعاء لله مالك الملك، مقلب القلوب، وفي هذه الأيام، والملايين يتوافدون على بيت الله الحرام ومئات الملايين غيرهم تهفو وتهوي قلوبهم إليه، نتذكر الدعوة التي غيَّرت وجه الأرض.

فالدعاء مِن أعظم أسباب تغيير الحياة على وجه الأرض، فالله -سبحانه وتعالى- قدَّر مقادير وقدَّر لها أسبابًا، ومما قدره الله -سبحانه وتعالى-: تعمير مكة المكرمة، وتعمير بيت الله الحرام بالقيام، والركوع والسجود، والطواف، والاعتكاف، وسائر أنواع العبادات.

وجعل الله -عز وجل- الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس؛ به يقوم أمر الناس، وإذا أوشكت الدنيا على الانتهاء، أذِن الله -عز وجل- قدرًا في هدمه، ولا بقاء للناس من دون الكعبة المشرفة؛ فمن أشراط الساعة هدم الكعبة كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ) (متفق عليه)، وأما قبْل ذلك فلا قوام للناس إلا ببيت الله الحرام وبتوجه المؤمنين إلى هذه القبلة المشرفة، فكيف عُمِّرت هذه البقعة؟ وكيف اتجهت إليها قلوب الملايين، وتتجه وجوههم وقلوبهم إليها؟!

يذهب الملايين مِن الناس في كل عام إلى هذه البقعة المشرفة لأداء فريضة الحج التي أمر الله -سبحانه وتعالى- بأدائها وافترضها على الناس، وجعلها ركنًا مِن أركان الإسلام، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (متفق عليه)، وقد عمِّرت هذه البقعة بدعوة مباركة مِن إبراهيم -عليه السلام-.

وقد كرَّم الله -عز وجل- سارة -عليها السلام- بأن كانت مِن المؤمنين، وردَّ الله -عز وجل- كيد الملك الكافر عندما ذهب بها إبراهيم -عليه السلام- إلى أرض مصر، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- إِلا ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: قَوْلُهُ (إِنِّي سَقِيمٌ) (الصافات:89). وَقَوْلُهُ: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) (الأنبياء:63). وَقَالَ: بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَا هُنَا رَجُلاً مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي، فَأَتَى سَارَةَ قَالَ: يَا سَارَةُ: لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ، وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي، فَلاَ تُكَذِّبِينِي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأُخِذَ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلاَ أَضُرُّكِ، فَدَعَتِ اللَّهَ فَأُطْلِقَ، ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلاَ أَضُرُّكِ، فَدَعَتْ فَأُطْلِقَ، فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ لَمْ تَأْتُونِي بِإِنْسَانٍ، إِنَّمَا أَتَيْتُمُونِي بِشَيْطَانٍ، فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ، فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ: مَهْيَا، قَالَتْ: رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الكَافِرِ، أَوِ الفَاجِرِ، فِي نَحْرِهِ، وَأَخْدَمَ هَاجَرَ) (متفق عليه).

وضربتْ سارة -عليها السلام- مثلاً في التضحية؛ إذ وَهبت هاجر -وهي خادمتها التي وُهبت لها- لإبراهيم -عليه السلام-؛ عسى الله -عز وجل- أن يرزقه منها الولد إذ كانت سارة عقيمًا لا تلد إلى ذلك التاريخ، فضربت مثلاً في التضحية والحب الحقيقي، والطاعة لله -عز وجل-، فاتخذ إبراهيم -عليه السلام- هاجر سُرِّية، وولدت له إسماعيل -عليه السلام-، ولكن وقع في قلب سارة ما وقع، وكان الله -عز وجل- قد قدَّر تعمير بيته الحرام بإسماعيل -عليه السلام- وذريته، فأمر الله -عز وجل- إبراهيم -عليه السلام- أن يأخذ هاجر ويهاجر بها إلى موضع مكة المكرمة، وفي هذا المكان الجدب الذي لا أحد فيه؛ لا أنيس ولا جليس، ترك إبراهيم -عليه السلام- هاجر وابنها الرضيع إسماعيل -عليه السلام-، وترك لهما جراب تمر، وشملة، وقربة ماء، وتركهم عند دوحة قريبًا مِن موضع زمزم، ولم يكن قد بُني البيت بعد، وإنما كان مثل الأكمة المرتفعة، أي مثل التل المرتفع، وتركهم وحدهم في هذا المكان الذي ليس فيه أحد، أترى هذه البقعة التي لا نبت فيها ولا زرع ولا ماء ولا شيء على الإطلاق مِن مقومات الحياة، اختارها الله -عز وجل- يوم خلق السماوات والأرض لتكون بقعة عبادته وتوحيده إلى آخر الزمان، إلى أن لا يوجد على وجه الأرض مَن يقول: "الله... الله!".

ولله الحمد والمنة أن الله حرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، ولم يحرمها الناس، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي وَلاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحْلِلْ لِي قَطُّ إِلا سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ، لاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا، وَلاَ تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلا لِمُنْشِدٍ) (رواه البخاري).

وقد اجتبى الله -تعالى- هذه البقعة وجردها -سبحانه وتعالى- مِن مقومات الحياة الطبيعية، وقدَّر أن تكون أزحم بقعة على وجه الأرض بمن يعبد الله -عز وجل-، وهذه آية عظيمة مِن آياته -عز وجل-، وبيانًا لأهمية الدعاء، إذ كانت هذه الدعوة مِن إبراهيم -عليه السلام-، قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) (إبراهيم:35)، وفي الآية الأخرى قال الله -تعالى-: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) (البقرة:126).

فكانت الدعوة قبل تكوُّن البلدة، وبعد تكوُّنها كان هذا الدعاء الذي غيَّر وجه الحياة على سطح الأرض، والذي نشر الله -عز وجل- به التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها، إذ مِن ذرية إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- وُلد محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أراد الله -سبحانه وتعالى- بحكمته وعلمه أن يكون هو الذي يرفع لواء دعوة التوحيد، وهي دعوة الأنبياء جميعًا في أرجاء الأرض كلها بفضل الله -عز وجل-، وتكون أمته مِن بعده حاملة هذا اللواء، تنشر توحيد الله -عز وجل-، وتعلن الكلمة الخالدة: "لا إله إلا الله" شعارًا للحياة، وشعارًا للأمة الإسلامية.

ولا توجد أمة مِن الأمم سواء ممن ينتسب إلى الأنبياء أو ممن لا ينتسب إليهم يرفع هذا الشعار، أو يطبقه في الحياة، أو يسعى إلى إعلاء هذه الكلمة في الأرض؛ وإنما تجد الأمم -حتى مَن ينتسب إلى الأنبياء- جعلوا شعائر خاصة بهم خلاف ما أوصى به الأنبياء، وإن كانت الوصية مسجلة عندهم، وهي أول الوصايا جميعًا: "أن نعبد الله وحده لا شريك له"، هكذا في وصايا موسى -عليه السلام- العشر في التوراة، وكما هي وصية المسيح -عليه السلام- في الإنجيل، وبفضل الله -عز وجل- إنما يرفع هذه الكلمة ويطبقها في الحياة أهل الإسلام الذين يتجهون مِن كل مكان إلى هذه البقاع الطاهرة، ويخرجون في اليوم الثامن قاصدين منى ثم عرفات، ثم يفيضون بعد ذلك إلى المشعر الحرام، ثم إلى منى، ثم إلى البيت العتيق مرة ثانية، قاصدين بذلك مرضات ربهم؛ لأنهم يبتغون فضلاً مِن الله ورضوانًا.

ولقد قدَّر الله -عز وجل- أن يأتي إبراهيم بإسماعيل -عليهما السلام- مع أمه ويتركهما في ذلك المكان، فتقول له هاجر: إلى مَن تتركنا في هذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا أحد؟ وكأن هذا السؤال ما كان ينبغي أن يكون؛ لذا لم يجبها إبراهيم -عليه السلام-، ولم يلتفت إليها، فكيف تظن به -وهو الرفيق الرحيم الشفيق بالخلق- أن يكون قاسيًا على ولده فلذة كبده! وعلى امرأته التي عاشرها وعاش معها ووحدت الله -عز وجل- على يديه؟! وكيف يمكن أن يُظن به ذلك، وهو يدعو لمن عصاه بالمغفرة والرحمة؟!

أثر دعوة إبراهيم لذريته وأتباعهم:

مِن دعاء إبراهيم -عليه السلام-: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) (إبراهيم:35-36)، أي: الذين دعوا إلى عبادتها أضلوا كثيرًا مِن الناس، وليست الأصنام نفسها تضل كثيرًا مِن الناس؛ فهو يعتبر بحال الأكثر، وكان يخشى على نفسه وبنيه أن يقعوا فيما وقع فيه الناس؛ ولذا قال مَن قال مِن السلف: مَن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟! أي: مَن يأمن أن يقع فيما حذر الله -عز وجل- منه مِن الشرك بعد أن دعا إبراهيم -عليه السلام- بالنجاة له ولبنيه منه، وقد استجاب الله -عز وجل- دعوته، فلم يكن أحد مِن بنيه وعصبته مشركًا، وإنما وقع الشرك في الأجيال التالية بعد عشرة قرون متتابعة، فانظر كيف تكون الدعوة مستمرة الأثر أجيالاً متتابعة!

وكذلك أثرت هذه الدعوة في حياة البشر وفي هذه البقعة إلى يومنا هذا؛ فدعوة التوحيد هذه جددها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقام بها في الأرض كلها بعد أن كان الأنبياء يقومون بها في أقوامهم، فبُعث عليه الصلاة والسلام إلى الأحمر والأسود، وأرسل أصحابه إلى المشارق والمغارب، وقام بذلك مَن بعدهم، وأمر أمته بالجهاد لإعلاء كلمة الله في كل مكان.