الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 29 يونيو 2016 - 24 رمضان 1437هـ

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ففي ظل هذه الأجواء من الفتن المتراكمة على الأمة "وخاصة على شبابها"، نحتاج إلى أن نأخذ من القرآن الغذاء والشفاء؛ فالقرآن هو غذاء القلوب وشفاؤها، وهو غذاء المجتمعات وشفاؤها، وهو غذاء الدعوات وشفاؤها.

وحاجتنا إلى أن نتدبَّر القرآن ونتصرف بناءً على توجيهه ضرورة مِن ضرورات إنقاذ أمتنا، والشباب خصوصًا في حاجة إلى تَلَمُّسِ الهُدَى من كتاب الله -سبحانه وتعالى-؛ ولهذا نقف هذه الوقفة مع آيات مِن سورة مريم في تنشئة الله -عز وجل- ليحيى بن زكريا -عليهما السلام-، قال الله -تعالى-: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا . وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا . وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا . وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (مريم:12-15).

- (خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ):

(خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ): أي أن يحفظ ألفاظه، ويدرك معانيه ويفهمها، ويأخذه بقوة، وهذا الأمر هو الذي أمر الله -عز وجل- به موسى -عليه السلام-، وأمر به بني إسرائيل مِن بعده، وهو أمرٌ لنا كذلك، قال الله -عز وجل- فيما أوحى الله إلى موسى -عليه السلام-: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) (الأعراف:145).

وهناك مِن الناس مَن يأبى أن يأخذ الكتاب بقوة حتى يرى الآية القاهرة، ويُهدَّد أعظم التهديد، كما كان الحال مع بني إسرائيل في قوله -تعالى-: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأعراف:171)، ولكن يحيى بن زكريا -عليهما السلام- كان مستجيبًا منذ صغره، ويأخذ الكتاب بقوة.

وأخذ ما آتانا الله -عز وجل- بقوة واجبٌ علينا؛ لأن هذه الأوامر لمن قبلنا قد أتى شرعنا بمثلها ولم ينقضها، والقوة تشمل القوة العلمية والقوة العملية: فالقوة العلمية في أن تفهم معاني الكلام، وتحفظه، وتتدبره، وتعرف دلالاته وتدركها، وفي نفس الوقت لا بد أن تعمل وأن تقوم بهذا وتدعو به؛ فاحرص على القوة العلمية والقوة العملية، فبالقوة العلمية المبصرة والقوة العملية المحركة ينجو الإنسان عند الله -عز وجل-.

والكتاب عطيَّة، والوحي الذي أنزله الله -عز وجل- مِنَّة منه -سبحانه-، وكثير مِن الناس يظنون في قضية الالتزام بالدين والعمل به أنهم يبذلون، وأن الإنسان هو الذي يعطي، والحقيقة أنك تأخذ وتعطي، وأنك إذا وُفِّقت للعلم والعمل والدعوة فقد أعطاك الله -عز وجل- ما لم يعطِ غيرك مِن الناس، فإن وفقك الله للعلم والعمل بقوة؛ فاعلم أن ما اجتباك الله به قد اجتبى به آحادًا أفذاذًا في العالم.

وقضية أخذ ما آتانا الله مِن الوحي بقوة لا بد أن نحاول تفعيلها في حياتنا؛ لأنها تعبير عن الصدق في السير إلى الله، ومعنى الصدق في السير إلى الله هو الأخذ بقوة، فعندما تطلب العلم تطلبه بقوة فتكون جادًّا في حفظ القرآن وطلب العلم، وتجتهد في العمل الصالح بقوة أيضًا، وكذا القوة في الدعوة إلى الله -عز وجل- بأن تستفرغ كل وسعك في العمل الذي أنت فيه بدلاً مِن أن يكون الإنسان متكاسلاً ومتوانيًا، وقد قال الله -عز وجل- لموسى وهارون -عليهما السلام-: (وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) (طه:42).

وقد يكون المرء راغبًا حقًّا فيما عند الله، ولكنه ضعيف الرغبة، ضعيف السير، لا يجتهد ولا يبذل كل ما عنده، فهو عنده طاقات أخرى فعلاً، ولكنه يهدرها، وعنده أوقات، ولكنه يُبَذِّر فيها، ويسرف على نفسه في الأوقات، فتضيع الأيام تلو الأيام، والليالي تلو الليالي وهو لم يُحصِّل شيئًا؛ لا علمًا ولا عبادة ولا عملاً، ولا مراقبة للنفس ولا تهذيبًا لها، ووالله إن الأخلاق تحتاج إلى سنين للتغير، فإذا تركها الإنسان وسوَّف فإنها تزداد سوءًا كل يوم؛ ولذلك تزداد الأمراض التي نعاني منها، ويضعف النور الذي عندنا، ويضعف التأثير في الخلق والناس، ويبتعد النصر أكثر، ويبتعد ما نرجوه ونرغب فيه مِن نصرة الدين.

فالإنسان في حاجة لأَنْ يستغل كل لحظة مِن وقته حتى يؤدي ما عليه، ونحن علينا الكثير لنعمله، ونحتاج الكثير؛ علمًا وعملاً، وإصلاحًا لنفوسنا، وتهذيبًا لأخلاقنا، ودعوة الناس إلى الله -عز وجل- بسلوكنا قبل كلامنا؛ كل هذا نحتاجه حتى لا تضيع الأوقات وتمر السنين والإنسان لا يزال على نفس حاله ومستواه في العلم والعمل؛ فلا تتغير الأمة، ويستمر هذا الضعف، ونسأل الله العافية.

ومَن يغيِّر الله بهم الأمم هم الذين يأخذون الأمور بالعزم وبالقوة، قال الله -تعالى-: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (الأحقاف:35)، فأولوا العزم من الرجال هم الذين يقومون بأخذ ما آتاهم الله -عز وجل- بقوة علمًا وعملاً، ودعوة وصبرًا، وإصلاحًا لأنفسهم ولمن حولهم.

- (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا):

(وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا): الحكم هو الفهم في الدين، والحرص والعزم، وذكر بعض أهل العلم أنه معرفة أحكام الدين حتى يحكم بينهم ويفصل بينهم فيما اختلفوا فيه، وهذا ليس بمستبعد؛ فإنه مِن ضمن الفهم في الدين أن يكون الإنسان قادرًا على التمييز بيْن الحق والباطل، والسُّنة والبدعة، والخطأ والصواب، فيحيى بن زكريا -عليهما السلام- آتاه الله الحكم صبيًّا، فهو يفهم الدين فهمًا جيدًا، فقد آتاه الله التوراة وحفظها مبكرًا، وقام بها، فحكم بين أهل الكتاب فيما اختلفوا فيه وهو صبي؛ فكيف بما حازه بعد ذلك مِن المناصب العالية الرفيعة، والخصال العالية الجميلة بعد بلوغ مبلغ الرجال وكمال العقل؟!

وكلما كان المرء ناشئًا في الطاعة منذ صغره؛ كلما كان أقرب إلى الله -تعالى-، فمِن منن الله على عبده أن يوفقه للطاعة وهو صغير، كما امْتَنَّ على يحيى بن زكريا -عليهما السلام-، وأدنى مِن ذلك منزلة مَن يؤتى الطاعة في شبابه، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) (متفق عليه)، فمن وُفِّقَ إلى الطاعة في صغره فذلك مِن علامات إرادة الخير به.

- (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا):

قوله -تعالى-: (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) فيه عِدَّة تفسيرات، وكلها جميلة رائعة، ومتلازمة عند مَن يتأملها.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله: (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) يقول: ورحمة مِن عندنا، وكذا قال عكرمة، وقتادة، والضحاك، وزاد: لا يقدر عليها غيرنا، وزاد قتادة: رُحِم بها زكريا. وقال مجاهد: (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) وتعطفًا مِن ربه عليه".

- فالمعنى الأول: أن يحيى -عليه السلام- جعله الله حنانًا مِن عنده لزكريا، ورحمة من عنده.

واسما الحنَّان والمنَّان قد وردا، وإن كانت بعض الأحاديث فيها ضعف إلا أن لها طرقًا متعددة تثبت أن الله -عز وجل- حنَّان منَّان؛ منها: حديث أنس -رضي الله عنه- قال: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَلْقَةِ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا رَكَعَ وَسَجَدَ جَلَسَ وَتَشَهَّدَ، ثُمَّ دَعَا، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، الْحَنَّانُ، بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، إِنِّي أَسْأَلُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَتَدْرُونَ بِمَا دَعَا؟)، قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية ابن حبان: (الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ).

وقد ورد "التحنن" في السُّنة أيضًا، ومِن ذلك: ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا وفيه: (ثُمَّ يَتَحَنَّنُ اللهُ بِرَحْمَتِهِ عَلَى مَنْ فِيهَا، فَمَا يَتْرُكُ فِيهَا عَبْدًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ إِلا أَخْرَجَهُ مِنْهَا) (رواه أحمد، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم).

وأمَّا المنُّ فكثير في القرآن: قال الله -تعالى-: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) (إبراهيم:11)، وقال: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17)، وقال: (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا) (القصص:82).

فيحيى -عليه السلام- حنانٌ؛ لأنه مِن رحمته -عز وجل- وتحنُّنه على زكريا -عليه السلام-، فسُمِّي رحمة؛ لأنه كان بسبب الرحمة، ويُسمى الإنسان رحمة، أو يسمى المخلوق رحمة؛ لأنه نشأ عن الرحمة، لا أن المخلوق نفسه هو صفة الله، ولكن يسمى باسم الصفة وهو مخلوق؛ لأنه نشأ عنها.

وهذا كما تقول: هذا خَلْق الله، بمعنى المخلوق، والخلق بمعنى الفعل، فالله -عز وجل- خلق الخلق، وفِعله -سبحانه وتعالى- ليس بمخلوق، كما قال الله -عز وجل- عن المطر: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (الروم:50)، وقال عن الجنة في الحديث القدسي: (أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي) (متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (متفق عليه)ِ، فكل هذه رحمة مخلوقة، وقد قال الله -عز وجل- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128)، فالله يجعل مَن شاء مِن عباده رحيمًا.

وأنت أيضًا تقول: "سبحان الله! هذه قدرة الله"، وأنت تقصد آثار القدرة، ولا تقصد مِن ذلك الصفة، وكما أن عيسى -عليه السلام- كلمة الله؛ لأنه كان بكلمة مِن الله، فخلقه الله -سبحانه وتعالى- بكلمة "كن"، وليس أن عيسى -عليه السلام- هو "كن"، وهذا كثير في القرآن.

فالمعنى الأول: (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) يعني: مِن عند الله -عز وجل-، فيحيى -عليه السلام- حنان ورحمة، رحم الله -عز وجل- بها زكريا.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقال عكرمة: (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) قال: محبة عليه، وقال ابن زيد: أما الحنان فالمحبة. وقال عطاء بن أبي رباح: (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) قال: تعظيمًا من لدنا. وقال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة، عن ابن عباس قال: لا والله ما أدري ما (حَنَانًا). وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور: سألت سعيد بن جبير عن قوله: (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) فقال: سألت عنها عباس فلم يحر فيها شيئًا".

وهذا فيه ضعف، والظاهر أن ابن عباس -رضي الله عنهما- قد تكلم في تفسير هذه الآية، ولكن ربما جاء عليه وقت حين سُئِل لم يدر ما يقول أو يرجِّح أي قول من الأقوال المحتملة.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "والظاهر مِن هذا السياق أن (وَحَنَانًا) معطوف على قوله: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي: وآتيناه الحكم وحنانًا. (وَزكَاةً) أي: وجعلناه ذا حنان وزكاة، فالحنان هو المحبة في شفق وميل، كما تقول العرب: حنَّت الناقة على ولدها، وحنت المرأة على زوجها، ومنه سميت المرأة حَنَّة مِن الحَنَّة، وحنَّ الرجلُ إلى وطنِهِ، ومنه التعطُّف والرحمة، كما قال الشاعر:

تحننْ عليَّ هَداكَ الـمليـكُ                 فـإن لـكـل مـَقـامٍ مـقــالاً

وفي المسند للإمام أحمد عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَبْقَى رَجُلٌ فِي النَّارِ يُنَادِي أَلْفَ سَنَةٍ: يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ"، وقد يُثنَّى، ومنهم مَن يجعل ما ورد مِن ذلك لغة بذاتها، كما قال طرفة:

أبا مـنـذر أفـنـيـت فاستبـق بعــضـنا                 حنانيك بعض الشر أهون مِن بعض"

فالحَنَان هنا مِن صفة يحيى -عليه السلام-، فهو عنده حنان بالخلق ورحمة بهم، وعنده تعطـُّف على الناس، وهو في الحقيقة أثر مِن آثار رحمة الله به؛ فمَن جعل الله في قلبه رحمة؛ فهذا مِن رحمة الله -عز وجل- به، ومَن جعل الله في قلبه قسوة؛ فهذا مِن عقوبة الله له.

أتظن أن مَن يؤذي الخلق ويعذبهم ويظلمهم يكون مرحومًا؟! لولا أنه أول المعذبين لما جُعِل كذلك، ولذلك سوف تجد الجبار قرين الشقي؛ ولذلك نفى الله عنه أن يكون جبارًا شقيًّا، وجعل الله -عز وجل- في قلبه رحمة فهو مرحوم، وأول المعذَّبين هم الذين يعذِّبون الناس، وأول الأشقياء التعساء الجبارون، وأول مَن يكون في نفسه هالكًا معذبًا شقيًّا تعيسًا في حياته هو الذي يُدخل الأذى على الخلق ويُعذِّبهم، وهذا عدل مِن الله -سبحانه وتعالى-، فمَن يظلم مِن الناس ويؤذيهم ويجبرهم على رأيه وضلاله بلا دليل مِن عند الله -عز وجل- على خطر عظيم.

فمِن تَحَنُّنِ الله على عبده أن يؤتيه حنانًا.

ومِن رحمة الله به أن يجعل في قلبه رحمة، وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)؛ فلولا أن الله يريد أن يرحمهم لما جعل في قلوبهم رحمة.

وقوله -تعالى-: (مِنْ لَدُنَّا) مِن أدلة الاجتباء والاصطفاء، فما كان مِن عند الله -عز وجل- فهو غالٍ عظيم القدر ذو فضل، فهذا الحنان إذا أعطيه يحيى بن زكريا مِن عند الله -عز وجل- فهو مِن أعظم ما يُوصف، ومِن أعظم ما يُعطى لإنسان.

(وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا):

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله: (وَزَكَاةً) معطوف على (وَحَنَانًا)؛ فالزكاة: هي الطهارة مِن الدنس والآثام والذنوب. وقال قتادة: الزكاة العمل الصالح. وقال الضحاك وابن جريج: العمل الصالح الزكي. وقال العوفي عن ابن عباس: (وَزَكَاةً) قال: بركة. (وَكَانَ تَقِيًّا): طهر، فلم يعمل بذنب".

والزكاة: طهارة النفس، والصلاح والعمل الصالح، وكلما تطهر الإنسان مِن أمراض القلوب، ومِن أمراض النفس الإنسانية التي مبناها على الظلم والجهل؛ كلما كان أقرب إلى الله -عز وجل-، وكما قال -تعالى-: (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلى اللهِ المَصِيرُ) (فاطر:18)، فالمقصود هنا زكاة القلوب والنفوس، وأولها: "التوحيد"، كما قال الله -تعالى-: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ . الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) (فصلت:6-7)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- وغير واحد: "الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله"، فهم لا يؤتون زكاة النفوس التي أصلها توحيد الله -عز وجل-.

وقوله -تعالى-: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا . وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً): مِن الأدلة على خلق أفعال العباد؛ لأن الفهم والحنان والزكاة مِن أفعال العبد؛ فالعبد يفهم، والعبد يتحنن ويتعطف، والعبد يتزكى، والله -عز وجل- آتاه ذلك الفهم، وآتاه الحنان، وآتاه الزكاة، وكل ذلك دليل على خلق أفعال العباد.

وقوله -تعالى-: (وَكَانَ تَقِيًّا): التقوى هي: "أن تعمل بطاعة الله على نور مِن الله ترجو ثواب الله، وأن تجتنب معاصي الله على نور مِن الله تخاف عقاب الله"، وتقوى الله -عز وجل- مِن أعظم المنن التي يمنُّ الله بها على عبده.