كتبه/ محمد صلاح الإتربي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
ذكر الشاعر "عبد الرحمن العشماوي" عن الأديب "مصطفى صادق الرافعي" أنه كان إذا أراد أن يكتب مقالًا: امتنع عدة أيام عن قراءة الصحف والمجلات، ونظر في كتب الأقدمين وطالعها؛ معللًا ذلك بأن لغة المجلات والصحف لغة ركيكة فهو "يغتسل" لغويًّا بهذا التصرف؛ خشية أن تتسرب تلك التراكيب الركيكة إلى كتاباته!
أتذكر هذا كلما طالعتُ كتابات جيلنا في مواقع التواصل وغيرها؛ فَكمُّ الأخطاء اللغوية الفجة لا يحتمل؛ ولستُ أقصد أخطاء الإعراب، فهذه قد ماتتْ منذ زمنٍ بعيدٍ، بل أقصد ما هو أشد مِن ذلك؛ أقصد الأخطاء التي تكون في بنية الكلمة: كإبدال الحروف، فالذال تكتب زايًا، والطاء تكتب تاءً، والهاء المربوطة تكتب تاءً مربوطة، والقاف كافًا، أو كالهمزات التي في غير موضعها، أو كحروف المد التائهة بيْن الكلمات باحثة لها عن مكان، أو موضوعة بالجملة في مكانٍ واحدٍ، وغير ذلك الكثير.
بل وإن ما هو أطمُّ مِن ذلك وأعظم... هذه العبارات المبتذلة، والتعبيرات السوقية المتدنية التي قد وَجدتْ لها طريقًا في الكتابات الرسمية، وصارتْ في النقاشات والحوارات علامة على تفتح الذهن وحسن الإدراك!
فماذا لو كان "الرافعي" بيننا الآن؟!
تُرى ماذا هو قائل عندما يطالِع هذا الركام الهائل مِن الأخطاء التي صارتْ أمرًا شائعًا لا يَلتفت إليه أحدٌ إلا نُعت بالتدقيق و"الحسوكة!"، أو هذا الإسفاف المتعمد في كثيرٍ مِن عبارات الكتَّاب وأساليبهم اللغوية؟!
إني لا أجد وصفًا أصف به حال لغتنا أدق مِن وصف أحد أساتذتنا عندما أراد أن يصف اللغة -وهو يستعرض إلى أي مدى انتشرت تلك الأخطاء- فقد وصفها بأنها: "اللغة الباسلة!".
وصدق -والله- دون مبالغة! فليس هناك لغة تَنكّب لها أبناؤها وأهانوها، وأعرضوا عنها، مثل "لغتنا العربية"، ولو كان هذا مع لغة غيرها؛ لكانت الآن في طي النسيان، كما هو الحال مع الأصول اللاتينية للغات الغربية، وهو أمر معروف لكل دارسي اللغة، وليس هذا موضع بيانه.
أيها السادة:
إن لغتنا ليستْ مجرد وسيلة للتواصل فقط، إن لغتنا العربية هي هويتنا.
إنك لن تجد سبيلاً لإدراك بلاغة القرآن ومعانيه الرائقة بدون تلك اللغة.
وإن جوامع الكلم التي أوتيها النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ستكون عنك بمعزل، ولن تستطيع أن تتدبرها إلا إذا كنتَ مدركًا جيدًا لتلك اللغة.
وإن تراثنا العظيم القابع في بطون المكتبات سيظل أجنبيًّا عنك، ولن تستطيع إدراك مضامينه حتى تتقن تلك اللغة.
أيها السادة:
إن أعداءنا يدركون جيدًا أن في القضاء على تلك اللغة، القضاء على أهم روافد هذا الدين، وفصل لهذه الأمة عن مصدر قوتها وعزتها؛ ولذا كان الشغل الشاغل لكثيرٍ مِن "أذناب الغرب" هو تحريف تلك اللغة بدعوى تطويرها! وهو أمر لا يمكن أن تناوله في مقالٍ صغيرٍ كهذا.
إن خلاصة ما أود أن تعيره انتباهك أيها القارئ: هو أن لغتنا هي هويتنا؛ فلنتعلمها جيدًا، ولنعلمها لأبنائنا.
وإنه -والله- مما يثير الفزع أن تتفكر في الأجيال الناشئة والقادمة: كيف ستحمي نفسها مِن هذا التلوث اللغوي؟!
تُرى هل يكون هذا التلوث قد فاق حدَّ ما يمكن منه الاغتسال؟!
كلما بحثت عن الإجابة، هالني وأفزعني ما أرى وأسمع!
والله المستعان.