الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 12 مارس 2016 - 3 جمادى الثانية 1437هـ

قدِّم حلاً ولا تكتفِ بالنقد

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فتعيش أمتنا فترة مِن المحنة الشديدة والأزمة والتعسف؛ يتسلط عليها الأعداء تسلطـًا داميًا مؤلمًا، يجعل قلب كل مؤمن ينزف مِن هذه الجراح، ويحزن لما يصيب إخوانه في المشارق والمغارب.

بلاء نسأل الله -عز وجل- أن يرفعه عن الأمة في كل مكان؛ تسلـُّط عليها عدو لا يرحم، بل يمكر بالليل والنهار، ولا يستحيي ولا يخشى الله ولا يتقيه؛ بلاء شديد، وأمر الأمة مفرَّق ممزق؛ لا يزالون يختلفون على كل شيء، ولا يجتمعون على أمر، ولا يمكن أن يتصور لهم مخرج إلا مِن عند الله -عز وجل-، ويحار الراغبون في الخروج مِن هذه الأزمة، وهذا المأزق الخطير، وهذه المحنة، وربما فعل الناس أفعالاً لا تؤدي إلى تغيير، وإنما هي محاولاتٍ يائسة، لا يترتب عليها إلا مزيد مِن البلاء.

والذي لا نشك فيه أن ما وصل إليه حال أمتنا "والبلاء بتسلط العدو علينا" لا يُرفع عنا إلا إذا تغيرنا؛ فالله -عز وجل- قال: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11)، أخبر الله -عز وجل- بذلك، وأخبر أنه يولّي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأنعام:129)، فما سلط الله علينا عدونا إلا بسبب منا.

ربما قد مرَّ على صحوتنا الإسلامية أو على التزامنا أكثر مِن أربعة عقود، أو نحو ذلك أو أكثر أو أقل، ومع ذلك فلا يزال الطريق طويلاً، وقد كان منا في بداية الصحوة الإسلامية مَن يظن أنه خلال سنواتٍ معدودة سوف يتغير وجه الأرض كله، ولكن حدثت عقبات وموانع، ولا زالت الصورة باهتة.

ولا زال التغيير المطلوب كبيرًا جدًّا، ولا بد أن يكون جذريًّا، ولا بد أن يكون شاملاً؛ فأمتنا لن تتغير إلا إذا تغيرنا نحن، تغيرنا مِن داخلنا؛ لأنه لو كان هناك مصباح منير قوي الإضاءة في مكان ما فلا بد أن يضيء ما حوله، ولا بد أن يضيء بطريقة تثمر إذهاب الظلمات وإزالتها حتى ينتشر النور في كل مكان، وما زال الظلام منتشرًا، وما زال الظلم والفساد منتشرًا، وذلك بالتأكيد إما لضعف في المصباح أو لحُجُب تمنع وصول هذا النور، وهذا كله مِن داخلنا كما ذكرنا.

ولا بد أن نعالِج أنفسنا، وأن نغيِّر أحوالنا، وأن يزداد إيماننا لكي تحصل لنا بإذن الله -عز وجل- الوعود التي ذكرها الله في كتابه

المبين مِن النصر والتمكين والفتح ووراثة الأرض (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ . إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ . وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:105-107)، وقال: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور:55).

لذلك سوف تظل الأحوال على ما هي عليه حتى يقع ذلك التغيير أو يذهب الله بنا ويأت بقوم آخرين -نسأل الله العافية-: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد:38).

وفي مقام التغيير لا بد لنا ألا نكتفي بتوصيف الواقع المرير المؤلم، فأكثرنا -أو كثير منا- ينشغل بتوصيف الواقع ناقدًا له؛ سواء واقع الدولة، أو واقع الدعوة، أو واقع المجتمع، أو واقع الأفراد، وهذا وإن كان مهمًا حتى نشرع في التغيير والبناء، لكن نقول: لا بد أن نتجاوز مرحلة النقد الذي يورث السخط، ولا يورث الحركة! نتجاوز النقد الذي يورث اليأس ولا يورث البناء، إلى مرحلة العمل وتقديم الحلول.

ننظر كأمثلة للواقع الذي نعيشه: عندنا مشكلة اقتصادية، على سبيل المثال: يزداد الفقراء فقرًا والأحوال تزداد أزمة وصعوبة، والكل يئن والكل يشتكي، لكن نقول نقدِّم حلاً، نزيد مساحة التكافل الاجتماعي، نذهب إلى الأغنياء نحثهم على مزيدٍ مِن النفقة ولو يسيرة، نحث الطبقة فوق المتوسطة والمتوسطة على العطاء ولو يسيرًا، بطريقة مباشرة تعالج فقر الفقراء، وتزيد مِن المعونة لهم، ونبحث حالات الفقراء أيضًا وننظر مَن يستحق فعلا ممن يدعي أنه منهم وليس منهم، فيأخذ حقـًّا ليس له، هو لغيره، بل يضيق به على الآخرين، وهذا عمل لا يكاد يقوم به إلا آحاد؛ ولذا يحدث فيه خلل.

نقدِّم حلاً لمشكلة الفساد بتقديم الأسوة الحسنة الصالحة أكثر مِن أن نهاجم الفاسدين والمفسدين، وإن كان هذا مطلوبًا لمن استطاع أن يقدمهم إلى العدالة، وأن يفضح فسادهم حتى يتوقف وليس فقط أن يصف حالهم.

نقدِّم حلاً بالأسوة بأن يكون كل منا مثالاً للصلاح والإصلاح، وأن يكون معينًا على الإصلاح، محاربًا للإفساد بالنصح والعمل والحركة في كل مجال، حتى تقل موجة الفساد العارمة.

في مجال الدعوة إلى الله -تعالى- نحسِن رصد القصور وأنواع الفتور، لكن نريد أن نقدم حلاً، ننزل إلى الناس، نخترق الحواجز الوهمية التي هي مِن صنع الأعداء، ومِن صنعنا أحيانًا كثيرة، نحارب أنواع الشر في المجتمع؛ المخدرات، السرقة، الجنس، الرشوة، الربا، الغصب، اغتصاب الناس؛ أموالهم وأعراضهم، نحتاج إلى عمل دءوب للوصول إلى الناس، والناس -بحمد الله- يقبلون الخير، وينتظرون مَن يأتي إليهم به.

وهكذا انتشار الجهل عقبة كئود أمام تقدُّم الدعوة والدولة والمجتمع؛ فليكن كل منا حريصًا على طلب العلم النافع في دينه ودنياه، وأن يكون أسوة صالحة للشباب في طلب العلم الذي هو فريضة على كل مسلم.

وهكذا كل مشكلة تواجهك بدلاً مِن أن تنشغل برصد أنواع الفساد وأنواع النقد على "صفحات الفيسبوك" و"مجموعات الواتساب"؛ فليكن همك: كيف أقدِّم حلاً؟ حتى نستطيع أن نتجاوز المحنة التي نحن فيها.

نسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى.