الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 12 مارس 2016 - 3 جمادى الثانية 1437هـ

مسئولية رجل الدعوة في زمن الشدة

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلا ينازع أحد في أن الشعب المصري بأكمله -إلا قليلاً- يعاني مِن كثير مِن مشاكل ارتفاع سعر الدولار، والذي يؤثر بالسلب على أسعار كل السلع تقريبًا، وإن كان مُسْتَوعبًا أن ترتفع أسعار السلع المستوردة مع ارتفاع سعر الدولار، ولكن العجيب أن تجد أن أسعار كثير مِن السلع التي ننتجها كـ"الفاكهة" ترتفع مع ارتفاع سعر الدولار على اعتبار أن المنتجين يربطون سعر التوريد في السوق المحلي بسعر التصدير بالدولار!

ثم مشكلات "انتهاكات" جهاز الشرطة التي لا أدري: هل هذا هو معدلها الطبيعي، ولكن الإعلام منشغل بها الآن أكثر أم أن "أمناء الشرطة" قد أصابتهم "لوثة"؛ فلم يعودوا يكتفون بما يقبله كثير منهم مِن قبول "الرشاوى" و"الإكراميات"-وإن كان تعميم الاتهام مرفوض ضد أي فئةٍ مهما بلغ حجم الفساد فيها-؟!

المهم، صار هؤلاء يؤدبون الأطباء في المستشفيات العامة، ويقتل أحدهم زميله بسلاحه "الميري" وفي مكان العمل "قسم البوليس"، ويقتل الآخر حماه، ويراود رابع امرأة عن نفسها في وضح النهار، وخامس يقتل مواطنًا بتصويب مسدسه "الميري" على رأسه مباشرة؛ لأنه تجرأ وأصرَّ على المطالبة بأجرته بعد أن عرف أن "الباشا" أمين شرطة! وهي كلها ممارسات تزيد مِن حجم الاكتئاب والغضب عند المصريين.

ناهيك عن تصاعد حالة الجنون والسفه عند طائفة مِن العالمانيين حتى تظن أن لوثة أصابتهم إلى درجة أن يخصص أحدهم حلقات متتابعة للسب في السلفيين، ومرَّ الأمر بلا مشكلة!ّ فالسلفيون لا بواكي لهم! فانتقل إلى مهاجمة "الأزهر" الذي كنا نظن أن أجهزة الدولة ودوائر الفكر حتى العالمانية منها سوف تنتفض لتقول لمن يُسيء له: "حسبك قف هنا!"؛ إلا أن الأمر بدا وكأن الأزهر هو الآخر لا بواكي له! ثم اتضح أن عالمانيي بلادنا قد صاروا في شأن مهاجمة الأزهر فريقان: الأول: يهاجم بعنف. والثاني: "المتعقل"، والذي يقوده وزير الثقافة "حلمي النمنم" شخصيًّا الذي حذر مِن "الهجوم العنيف" على الأزهر -وقد علقنا عليه في مقالة سابقة-؛ وبالتالي صفـَّق الجميع لهذا البرنامج في هجومه على الأزهر؛ فأغرى هذا الأمر صاحبنا، وظن أنه الباحث الذي جاء ليُطيح بكل كتب التراث؛ فأطلق لسانه في الحديث، والمحدثين، والفقه، والفقهاء، ولم يسلم مِن لسانه أحد حتى جاء مَن حرَّك دعوى ضده؛ فانتفض القوم وتنادوا بحقوق الإنسان، وكأن كل مَن سبهم وشتمهم وكذب عليهم مِن الأحياء والموتى ليسوا ببشر أو ليس لهم حقوق.

وفي هذه "الهوجة" قررت جريدة قومية تُطبع مِن أموال الشعب أن تنشر أحقر فصل في رواية لكاتب "مغمور"؛ فأراد أن ينال الشهرة ولو بالبول في بئر زمزم؛ فكتب رواية تتحدث عن الفاحشة بأسمائها السوقية شديدة القبح! والصراحة طبعًا إحدى المشكلات الجانبية التي مِن الممكن إذا اعتُبر هذا أدبًا أن يكون أي "توربيني" ممن يقبض عليهم بتهمهم المعروفة عميدًا للأدب العربي، ولن يبالغ الكاتب مهما بلغت به وقاحته أن ينافس هؤلاء في اللغة التي هم سَدَنتُها.

والسؤال: ماذا يفعل الساسة والإعلاميون تجاه كل هذه المشاكل؟! للأسف، فإن الساسة والإعلاميين ينقسمون عادة إلى فريقين: فريق يدافع على طول الخط. وفريق يهاجم على طول الخط.

فأما الفريق الأول: فيرى أن الأزمات الاقتصادية شيء عادي، وتحدث في كل الدول، ويرى أن مطالبة الشعب "المتقشف بطبعه" بالتقشف شيء طبيعي، وواجب وطني، ويرى في الوقت ذاته أن مطالبة الحكومة بالتقشف هي دعوة لكسر هيبة مصر أمام العالم، وأن الحكومة تحتاج إلى الكثير مِن "البهرجة"، ويرى أن تصرفات أمناء الشرطة هي تصرفاتٍ فردية "وبالمناسبة: أي تصرف -شرعًا وقانونًا- لا يدين إلا صاحبه، كما قال -تعالى-: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام:164)، وهذا ما أخذتْ به الدساتير المعاصرة؛ فقررت أن الجريمة والعقوبة شخصية".

ولكن يبقى السؤال: ماذا فعل المسئولون مع هؤلاء؟!

وماذا قدَّموا للضحايا؟!

وماذا فعلوا لتفادي حدوث ذلك في المستقبل؟!

إلى آخر هذه الأسئلة.

والفريق الآخر لا يريد أن يتعامل بواقعية مع أي أزمةٍ لها جذور عميقة، ولا يطالب بحلول جذرية وعاجلة، هو أول مَن يَعلم استحالتها، ولكن الانتهازية السياسية تُملي عليه ذلك.

وإن كان مِن اتفاق بيْن الفريقين، فكان -وللأسف- في الوقوف إلى جانب مَن يطعنون في الثوابت، ويهاجمون الأئمة ويسخرون مِن الأزهر، ومؤخرًا بجانب مَن ينشرون أدب "التوربيني!".

وقلَّ مِن الساسة مَن يتعامَل بوسطية؛ فيظهِر الأخطاء، ويقترح الحلول العملية المتدرجة، ويطالِب الجمهور بالصبر على تطبيقها متى وُجدت، وينادي على المسئولين بالشروع فيها متى تكاسلوا أو قصروا فيها.

ويبقى السؤال الآخر: ماذا يفعل الشعب المصري؟!

الشعب المصري شعب تحمل الكثير مِن المآسي عبْر تاريخه، وورث طبعًا عجيبًا يعبِّر عنه المثل: "شر البلية ما يضحك!"؛ فالشعب المصري اعتاد أن يحول كل همومه إلى نكات ساخرة، ثم ازدادت حدتها في عصر "الميديا" لتتحول إلى برامج ساخرة، وهذا هو الشعب المصري عبر التاريخ.

- وهنا يأتي السؤال الذي هو بيت القصيد مِن هذه المقالة: هل يسع الفرد الذي ينتسب إلى جمعية دعوية أن يسلك هذا المسلك، وأن ينفـِّس عما يعانيه بمثل هذه الروح؟

مع الأخذ في الاعتبار أن علينا أن ندرك عدة تبعاتٍ تقع على أي فردٍ بمجرد انتمائه لجمعية دعوية؛ لا سيّما إذا كانت لها حضورها في المجتمع مثل: "الدعوة السلفية".

فمِن ذلك:

1- أن الدعوة موجهة إلى المسئول، وإلى رجل الشارع على حد سواء، وصاحب الدعوة إن اعتاد السخرية مِن فشل المسئول أو عجزه أو حتى عناده -مثل مَن يصر على ترك ملفات ضخمة في نطاق مسئولياته، ويترصد بعض مظاهر الالتزام التي يتفق العلماء على أنها مِن الدين وجوبًا أو استحبابا كالنقاب- لا يتمكن مِن التغيير والإصلاح؛ فإنك إن استعملتَ أسلوب السخرية تقطع الطريق أمام الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأوغرت صدر المسئول.

2- ومِن ثَمَّ فإنكار القرارات المخالفة للشرع، أو المطالبة برفع المظالم بعباراتٍ رصينة تؤدي الغرض مِن الناحيتين: حقوق عموم المجتمع مِن المسئول، وحق المسئول كإنسان عليك.

3- وفي هذا الصدد لا بد مِن التنبيه على أنه قد يُستعمل أحيانًا في إقناع مَن يدافع عن شيء يخدش الحياء أن يُقال له: "أترضاه لأمك؟! أترضاه لأختك؟!" كما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الشاب الذي استأذنه في الزنا، وبون شاسع بيْن هذا وبيْن قول بعضهم على صفحات التواصل الاجتماعي: "إن كنتم ترضون ذلك لأمهاتكم وبناتكم، فنحن لا نرضاه لأمهاتنا وبناتنا!"؛ فهذا الكلام فيه غلظة وعدوان، ويخالِف سنن الأنبياء والمرسلين، فقد قال الله لـ"موسى" و"هارون" -عليهما السلام-: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه:43-44).

وحكى الله -عز وجل- قول "شعيب" -عليه السلام- لقومه: (وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ) (هود:84).

4- ليس دور الداعية أن يُذكِّر الناس بالواقع السيئ؛ فهم أقدر على ذلك منه، وإنما أن يذكِّر كلَّ طرف بما يجب عليه، وأن يجتهد في إيجاد الحلول، ولو بالجهود الذاتية، وتحويل طاقة الغضب إلى طاقاتٍ بناءة، مع استمرار إنكار المنكر والدعوة إلى رفع المظالم.

5- دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب؛ فنحذر كل ظالم مِن دعوة المظلوم، ولكن اختر لنفسك الأفضل، وهو الدعاء للمظلوم بالانتصاف، والدعاء للظالم بالهداية، ويـتأكد هذا السلوك إذا كنا نتحدث عن المجتمعات الإسلامية.

وعلينا جميعًا أن نعمل على تحقيق قول "شعيب" -عليه السلام-: (إِنْ أُرِيدُ إِلاّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْت) (هود:88)، فلا نفعل إلا الصلاح، وما يقربنا إليه.

نسأل الله أن يصلح لنا شأننا كله، وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدًا.