الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 27 ديسمبر 2021 - 23 جمادى الأولى 1443هـ

من هوى فقد هوى! (1)

كتبه/ أحمد مسعود الفقي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

إن مادة كلمة "هوى" تدور على معنيين:

الأول: ميل النفس وإرادتها إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع.

الثاني: الشيء يهوي هويًا، إذا سقط من علو إلى سفل.

قال الشّعبي -رحمه الله تعالى-: "إنما سمّي الهوى؛ لأنه يهوي بصاحبه"؛ وعليه فيكون عنوان المقال: مَن اتبع هواه أو هوى غيره من غير دليل شرعي أو هدىً من الله، فقد هوى وسقط وضل وهلك.

ومتى جاء الهوى مطلقًا لم يكن إلا مذمومًا، أما إن جاء مقيدًا بقيد حسن وموافقًا للصواب، دلَّ على حسنه وصار محمودًا، فعند البخاري من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله -تعالى-: (‌تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ) (الأحزاب:51)، قلتُ: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك".

وجاء في صحيح مسلم في موضوع مشاورة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- في شأن الأسرى، قال عمر:" فهوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قلتُوروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى ‌يَكُونَ ‌هَوَاهُ ‌تَبَعًا ‌لِمَا ‌جِئْتُ ‌بِهِ" (أخرجه ابن أبي عاصم في السنة، وقال النووي: "حديث حسن صحيح"، وضعفه آخرون).

وما نعنيه في هذا المقال هو الحديث عن الهوى المذموم، فقد بيَّن الحق -تبارك وتعالى- في كتابه: أن مَن قدَّم الهوى على الشرع فإن عاقبته الهلاك والخذلان، ومأواه جهنم وبئس المصير، قال -تعالى-: (‌فَأَمَّا ‌مَنْ ‌طَغَى . وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات: 37-39).

وأما مَن قَدَّم الشرع على الهوى، وأسلم وجهه لله، ووقف عند حدود الله فقد اهتدى، ونال الدرجات العلى، ونجا وفاز بالنعيم المقيم في جنات النعيم، قال -تعالى-: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعـات: 40-41).

وقد نهى الله -تبارك وتعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- عن اتباع الهوى، فقال -سبحانه-: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ) (الشورى: 15)، وقال -تعالى-: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الجاثية:18).

وهذا خطاب صريح للنبي صلى الله عليه وسلم، باتباع الشرع الحنيف، والحذر مِن اتباع أهواء مَن استولى عليه الجهل، واستبد به العمى، فانقاد لهواه بغير هدىً من الله، وهدى الله هو النقطة الثابتة التي يقف عندها مَن يؤمن بالله -عز وجل-؛ فلا تتزعزع قدماه، ولا تضطرب خطاه؛ لأن الأرض ثابتة تحت قدميه، فهو الركن الركين، والحصن الحصين.

فكان النبي -صلى اللهُ عليه وسلم- يتعوذ بالله من اتباع الهوى، روى الترمذي في سننه مِن حديث قطبة بن مالك -رضي اللهُ عنه- قال: كان النبي صلى اللهُ عليه وسلم يقول: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ، وَالْأَعْمَالِ، وَالْأَهْوَاءِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وأخبر النبي -صلى اللهُ عليه وسلم- أن اتباع الهوى من المهلكات، روى البزار في مسنده من حديث ابن عباس -رضي اللهُ عنهما- أن النبي -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: (المُهْلِكَاتُ ثَلَاثٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ المَرءِ بِنَفْسِهِ) (أخرجه البزار، وحسنه الألباني).

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفسَهُ هَوَاهَا ‌وَتَمَنَّى ‌عَلَى ‌الله ‌الأَمَانِيَّ) (رواه أحمد والترمذي، وقال الترمذي: "حديث حسن")، فقسَّم النبي صلى الله عليه وسلم- النَّاس إِلَى قسمَيْنِ: كيس وعاجز؛ فالكيس هُوَ اللبيب الحازم الْعَاقِل الَّذِي ينظر فِي عواقب الْأُمُور، فَهَذَا يقهر نَفسه ويستعملها فِيمَا يعلم أَنه ينفعها بعد مَوتهَا، وَإِن كَانَت كارهة لذَلِك، وَالْعَاجِز هُوَ الأحمق الْجَاهِل الَّذِي لَا يفكر فِي العواقب، بل يُتَابع نَفسه على مَا تهواه، وَهِي لَا تهوى إِلَّا مَا تظن أَن فِيهِ لذتها وشهوتها فِي العاجل، وَإِن عَاد ذَلِك بضر لَهَا فِيمَا بعد الْمَوْت، وَقد يعود ذَلِك عَلَيْهَا بِالضَّرَرِ فِي الدُّنْيَا قبل الْآخِرَة.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.