الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 27 نوفمبر 2021 - 22 ربيع الثاني 1443هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال(44) قصة إحياء الطيور الأربعة (6)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ‌أَرِنِي ‌كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260).

الفائدة الثانية من فوائد الآية الكريمة:

مَثَل مَن استكمل الإيمان الواجب الذي يستحق صاحبه أن يدخل الجنة لأول وهلة بالنسبة إلى تفاضل الإيمان بالكيفية؛ أي: بدرجة التصديق واليقين، كمثل مَن اشتد بناؤه وجفت مواده وتماسكت؛ فإذا دفعوه لم يخر، ليس كالذي كان بناؤه ضعيفًا لم تجف مواده فلو دفعه أحد أو اتكأ عليه؛ لَخَرَّ وسقط.

أما الأول فإنه لا يُفتن ولا يتزلزل عند الفتن، وإذا شُكِّكَ لم يشك، ولكن الشيطان لم ييأس منه، ولا يزال يأمل في هدم بنائه، فما زال يوسوس له وسوسة الصدر؛ فيأتي الشيطان إليه فيوسوس له في الوحدانية، أو في النبوة أو في القرآن أو في القَدَر أو في بعض الشرائع أو في غير ذلك، وهو يكره ذلك ويضيق به ذرعًا، وليس عنده شك -الذي هو استواء الطرفين-، وإلا لَمَا ضاق به ولَمَا كره تلك الوسوسة، وكونه يقاوم هذه الوسوسة، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويسأل أهل العلم ليزيلوا عنه شبهات الوساوس التي يضيق به؛ فهذا دليل على أنه لا يشك، وأن عنده الإيمان الواجب.

وبعض الناس يجهل الفرق بين الشك والوسوسة، وربما أوقعه الشيطان بذلك في ظن أنه يشك وأنه قد كفر؛ فلربما قَبِل بعضهم ذلك ووقع في الفتنة، وأما مَن حقق الإيمان الواجب فإنه يظل كارهًا ولا يقع في الفتنة، ويفرق بين الشك والوسوسة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن سأله من الصحابة وشكوا إليه، قالوا: "إنّا نَجِدُ في أنْفُسِنا ما يَتَعاظَمُ أحَدُنا أنْ يَتَكَلَّمَ به، قالَ: (وقدْ وجَدْتُمُوهُ؟) قالوا: نَعَمْ، قالَ: (ذاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ) (رواه مسلم).

وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الذي تأتيه الوسوسة فيردها هو مؤمن، عنده الإيمان الواجب، لكن هناك مَن هو أعلى منه في الإيمان، وهو الذي لا تأتيه الوساوس مطلقًا، وهم في منزلة الصديقية، كما كان أبو بكر -رضي الله عنه- في هذه المرتبة في صلح الحديبية، في حين كان عمر -رضي الله عنه- قد جاءته وساوس احتمال خطأ النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى قال: "والله ما شككت منذ أسلمتُ إلا يومئذٍ" (رواه ابن حبان)، فلم يشك في حياته قط أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أخطأ إلا يومئذٍ، وهو بالقطع لم يشك في رسالته، فهو موقن بذلك دائمًا، يقول: "ألَسْنا على الحَقِّ وهُمْ على الباطِلِ؟ أليسَ قَتْلانا في الجَنَّةِ، وقَتْلاهُمْ في النّارِ؟ قالَ: (بَلى)، قالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنا" (متفق عليه)، وإنما الشك والوسوسة جاءته باحتمال أن يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أخطأ في الاجتهاد في هذه المسألة؛ أي: قبول الصلح على تلك الشروط المجحفة، وكانت هذه حقًا وسوسة من الشيطان.

ولكنَّ أبا بكر الصديق لم تأته وسوسة في عدم خطأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، ولم يوسوس له الشيطان مِن يوم أن آمن؛ ولذلك درجة الصديقين أعلى مقامًا من درجة عامة المؤمنين الذين قد تأتي لهم الوساوس ويردونها، فمقام الصديقية مقام لا تأتيه وسوسة أصلًا؛ سواء في أصول الإيمان، من الإيمان بالله، والملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، أو في فروع الدين، فكم من المؤمنين تأتيه الوساوس في القدر، وتنازعه نفسه وتجعله يتردد، والآخر تأتيه وساوس فيما دون ذلك من المسائل العملية التي يوسوس بها الشيطان.

فدرجة الصديقية درجة إيمان مستحبة، ودرجة تصديق أعلى، وهي التي كان إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- عليها، ولكن فوقها درجة المعاينة، وقد كان إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- مؤمنًا ومصدقًا، وليس عنده شك قط، ولكنه كان يريد أن يرى بعينيه؛ لأن عين اليقين أكمل من علم اليقين، فكان يريد أن يرى بعينه ليطمئن قلبه، قال -تعالى-: (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، أي: في قضية إحياء الموتى.

ونبي الله موسى -عليه السلام- رَجَع إلى قومه غضبان أسفًا، وكان يعلم -بإخبار الله له- أن قومه قد فُتِنوا، وأنهم قد عبدوا العجل، وقد رجع إليهم حزينًا غاضبًا من أجل ذلك، وهو دليل على انتفاء الوسوسة عنه، ودليل على أنه مصدِّق تمام التصديق لخبر الله -عز وجل-، وعنده يقين من حيث نوعية التصديق، لكنه عندما رآهم بعينيه يعبدون العجل ألقى الألواح من شدة الغضب، مع أنه كان عائدًا حاملًا للألواح عارفًا في نفسه بما يفعلون، لكنه عندما رآهم ألقى الألواح غيظًا وازداد غضبًا، مع أنه كان مؤمنًا بخبر الله، لكن نوعية التصديق تختلف.

ومن الأمثلة على ذلك في الأمور المحسوسة: اختلاف درجة التصديق، فإذا أخبر الناسَ ثقةٌ أن في المكان الفلاني حريقًا، فصدقوه؛ لأنه ثقة عندهم، ثم أتى آخر فأخبرهم أنه ليس هناك حريق إنما هو بعض الدخان، فقد يتزحزح التصديق عند بعضهم، لكنهم يصدقون الثقة الذي أخبرهم بالحريق، وخبر الواحد قد يتزحزح العلم الذي ينشأ عنه، فإذا أخبرهم مِن الثقات اثنان أو ثلاثة أو عشرة لم يتزحزح اليقين؛ وذلك لأن الخبر قد استفاض إليهم بذلك، وإذا أخبرهم مائة مثلًا، ثم رأوه بأعينهم؛ فلا شك أن هذه المعاينة أكمل حتى من المتواتر.

ولهذا قال الله -عز وجل- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى) (النجم:53)، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- رأى بعينيه -في المعراج- الجنة والنار، ورأى جبريل -عليه السلام-، ورأى سدرة المنتهى في آياتٍ أراه الله -عز وجل- إيَّاها، قال -تعالى-: (‌مَا ‌زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم: 17-18)؛ رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، ورأى نور الحجاب، حيث قال لأبي ذر -رضي الله عنه- حين سأله: "هلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فقالَ: (رَأَيْتُ نُورًا)، وفي الرواية الأخرى: (نُورٌ أنّى أَراه) (رواهما مسلم)، أي: نور الحجاب حجبني؛ فكيف أراه؟!

رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- كل ذلك بعينيه، وهذه أكمل درجات الإيمان والتصديق.

وقد أعطاه الله -عز وجل- أكثر من مسألة، وإبراهيم -عليه السلام- قد سأل مسألة واحدة فأعطاه الله إياها، وهي كيف يحيي الموتى، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاه الله آيات كبرى، وذلك من غير سؤال، فكان في ذلك أكمل منزلة -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذا قال إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (إنَّما كنتُ خَليلًا مِن وَراءَ وَراءَ) (رواه مسلم)؛ لأن الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- أكمل خُلَّةً، وأعظم منزلة، وأعطاه الله ما لم يعطِ أحدًا من العالمين.

وكذلك في مسألة الإيمان بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يره، ووجد مَن ينازعه ويؤذيه في اتِّباع النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن كثرة الفتن في آخر الزمان له أجر خمسين من الصحابة، ولكن ذلك ليس في كلِّ الأعمال؛ لأن الذين شهدوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أكمل إيمانًا في هذه الجزئية من غيرهم، وإن كان إيمان غيرهم بالغيب إيمانًا عظيمًا، لكن فطرة الله التي فطر الناس عليها أن المعاينة أكمل من علم اليقين؛ ولذلك ألذ نعيم عند أهل الجنة أن يروا ربهم -سبحانه وتعالى- بأبصارهم، رزقنا الله -سبحانه وتعالى- لذة النظر إلى وجهه.

ولنا حديث آخر -إن شاء الله-.