الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 17 نوفمبر 2021 - 12 ربيع الثاني 1443هـ

وقفات مع آيات (14) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال- تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) (الحجرات:2).

قصة الآية وسبب نزولها:

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقد روي أنها نزلت في الشيخين: أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، روى البخاري عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا، أبو بكر وعمر-رضى الله عنهما-، رفعا أصواتهما عند النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قَدِم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس -أخي بني مجاشع-، وأشار الآخر برجل آخر، قال نافع: لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر -رضي الله عنهما-: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردتُ خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)، قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد هذه الآية حتى يستفهمه" (تفسير ابن كثير).

وقفات حول الآية:

(1) وجوب التأدب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

- عدم رفع الصوت عنده وبين يديه حيًّا وميتًا: قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه سمع صوت رجلين في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ارتفعت أصواتهما، فجاء، فقال: أتدريان أين أنتما؟ ثم قال: مِن أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربًا. وقال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره -صلى الله عليه وسلم-، كما كان يكره في حياته -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه محترم حيا وفي قبره صلى الله عليه وسلم" (انتهى).

- عظيم أدب الصحابة -رضي الله عنهم- بعد نزول الآية هو مثل يقتدى به لمن بعدهم: قال ابن كثير: "قال الإمام أحمد: عن أنس -رضي الله عنه- قال: لما نزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)، وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت، فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حبط عملي، أنا من أهل النار، وجلس في أهله حزينا، ففقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فانطلق بعض القوم إليه، فقالوا له: تفقدك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما لك؟ قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأجهر له بالقول، حبط عملي، أنا من أهل النار، فأتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبروه بما قال، فقال: لا، بل هو من أهل الجنة، قال أنس -رضي الله عنه-: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف، فجاء ثابت بن قيس بن شماس -رضي الله عنه-، وقد تحنط ولبس كفنه، فقال: بئسما تعودون أقرانكم، فقاتلهم حتى قتل. وفى رواية: قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " أما ترضى أن تعيش حميدًا، وتقتل شهيدًا، وتدخل الجنة؟ فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أرفع صوتي أبدًا على صوت النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: وأنزل الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ(الحجرات:3) (تفسير ابن كثير)(1).

- ومن الآية أيضًا: يؤخذ وجوب التأدب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدم مخاطبته في حياته، كما يخاطب الناس بعضهم بعضًا (يا فلان - يا ابن عم - يا ابن أخي ... )، بل يُخَاطَب بسكينة ووقار وتعظيم: قال -تعالى-: (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)، وقال: (لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا) (النور:63).

- ويدخل في ذلك ذكره -صلى الله عليه وسلم- في غيبته أو بعد موته، فلا يذكر إلا بالتوقير والتعظيم: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (الحجرات:4).

- فائدة: لم يخاطبه الله -سبحانه- إلا بوصف الرسالة أو النبوة، بل حتى عند العتاب: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ‌مَا ‌أَحَلَّ ‌اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التحريم:1).

(2) وجوب التأدب مع ورثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

- وهذا الأدب قد وعاه السلف حيث تجاوزوا به شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى كل شيخ وعالم من العلماء، احترامًا لهم، حيث إنهم يحملون ميراث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو سنته، وهم حراس الدين وحُماته: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلين) (رواه البيهقي، وصححه الألباني).

- توقير العلماء علامة على الالتزام بالسنة: قال طاوس -رحمه الله-: "إن مِن السنة أن توقِّر العالِم" (جامع بيان العلم وفضله). وقال الأعمش -رحمه الله-: "كنا نهاب إبراهيم كما يُهاب الأمير" (تذكرة الحفاظ)، وقال الربيع بن سليمان -رحمه الله-: "والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ هيبة له" (مناقب الشافعي للبيهقي)، وقال يحيى البيكندي -رحمه الله تعالى-: "لو قدرتُ أن أزيد في عمر البخاري من عمري لفعلتُ، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموتَه ذهابُ العلم".

- توقيرهم بالخدمة وإكرامهم إعلاء للدين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ من إِجْلَالِ الله إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فيه وَالْجَافِي عنه، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وعن الحسن قال: "رئي ابن عباس يأخذ بركاب دابة أُبي بن كعب، فقيل له: أنت ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تأخذ بركاب رجل من الأنصار؟ فقال: إنه ينبغي للحبر أن يعظم ويشرَّف" (الجامع للخطيب).    

- تجريحهم والتطاول عليهم أمر خطير؛ لأن جرح العالم ليس جرحًا شخصيًّا، فالذي يجرح العالم يجرح العلم الذي معه، ومَن جرح هذا العلم، فقد جرح إرث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلى ذلك فهو يطعن في الإسلام من حيث لا يشعر: قال -تعالى- عن المنافقين الذين طعنوا على حفظة القرآن من الصحابة -رضي الله عنهم-: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ . لَا تَعْتَذِرُوا ‌قَدْ ‌كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) (التوبة:65-66).

- فليحذر الذين يسيئون إلى العلماء من مغبة ذلك في الدنيا قبل الآخرة: قال الحافظ ابن عساكر -رحمه الله تعالى-: "كل مَن أطلق لسانه في العلماء بالثلب، بلاه الله -عز وجل- قبل موته بموت القلب"، وقال ابن المبارك -رحمه الله تعالى-: "مَن استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوة ذهبت مروءته"، وذكر رجلٌ عالمًا بسوء عند الحسن بن ذكوان -رحمه الله تعالى- فقال: "مه! لا تذكر العلماء بشيء فيميت الله -تعالى- قلبك".

- ولا معصوم إلا مَن عصم الله وهم الأنبياء والملائكة، وعلى ذلك فيجب أن ندرك أن العالم معرض للخطأ، فنعذره حين يجتهد فيخطئ، ولا نذهب نتلمس أخطاء العلماء ونحصيها عليهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر" (متفق عليه)، وكان بعض السلف إذا ذهب إلى شيخه تصدَّق بشيء، وقال: "اللهم استر عيب شيخي عني، ولا تذهب بركة علمه مني".

خاتمة:

- تذكير بالآية وقصة النزول، والإشارة إلى أهمية معرفة قصة النزول في فهم الآية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قُتل -رضي الله عنه- شهيدًا في وقعة اليمامة، وعاش حميدًا، وسيدخل الجنة بشهادة الرسول -عليه الصلاة والسلام-، قال القرطبي في تفسيره عن ابنة ثابت بن قيس: "فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة، فلما التقوا انكشفوا، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله، ثم حفر كل واحد منهما حفرة فثبتا وقاتلا حتى قُتِلا، وعلى ثابت يومئذٍ درع له نفيسة، فمر به رجل من المسلمين فأخذها ... وبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه، فقال له: اني أوصيك بوصية، فإياك أن تقول: هذا حلم فتضيعه، إني لما قتلت بالأمس مرَّ بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ... وإن منزله في أقصى الناس، وفرسه يستن في طوله، أي: في لجامه وشكيمته، وقد كفأ على الدرع برمة، وفوق البرمة رحل، فأت خالدًا فمره أن يبعث فيأخذها، فإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله أبي بكر، فقل له: إن عليَّ من الدَّين كذا كذا ... فليقم بسداده. فلما استيقظ الرجل من نومه أتى خالد بن الوليد فقصَّ عليه رؤياه، فأرسل خالد من يأتي بالدرع، فوجدها كما وصف ثابت تمامًا، ولما رجع المسلمون الى المدينة قصَّ المسلم على الخليفة الرؤيا، فأنجز وصية ثابت، وليس في الإسلام وصية ميّت أنجزت بعد موته على هذا النحو، سوى وصيّة ثابت بن قيس" (قال القرطبي: ذكره أبو عمر في الاستيعاب).