الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 26 سبتمبر 2021 - 19 صفر 1443هـ

منطلق الرحمة المفقود!

كتبه/ أبو بكر القاضي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالله هو الرحمن الرحيم، يرزق العباد القلوب الرحيمة التي تتدفق رحمة وحنانًا، وشفقة على الخلق، وعلى قَدْر نصيب العبد من الصلاح والإصلاح والإحسان في عبادته وعلمه، ودعوته وقربه من القرآن: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ ‌قَرِيبٌ ‌مِنَ ‌الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف: 56)، تكون رحمة الله قريبة منه، لا ينزعها من قلبه فيستحيل قاسيًا على الأقارب والأباعد؛ فقد تُنزع منه حتى على فلذة كبده، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للجد بن قيس حين أخبره أن له عشرة من الولد لم يقبِّل منهم أحدًا: (أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ ‌مِنْ ‌قَلْبِكَ ‌الرَّحْمَةَ) (متفق عليه).

فمَن كان هذا حاله مع القريبين؛ فكيف يكون حاله مع مَن أذاه أو تعرَّض له بسوءٍ؟!

هذا لا يُتصوَّر منه إلا أبشع صور الانتقام، وإرواء الغليل بالشماتة وأنواع الإهانة، ولكن أفق الأنبياء والرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- وورثتهم من العلماء والحكماء والدعاة في سماء أخرى، وفي علو سامق من فيوضات الرحمة التي يفيض الله بها على قلوبهم على الموافقين والمخالفين، على البرِّ والفاجر، والمؤمن والكافر، والذي أحسن والذي أساء!

وهذا يدل على اتساع قلوبهم، وتدفق شلالات الرحمة والحنان والشفقة فيها مِن آثار علاقتهم الطاهرة بربهم التي تشبعهم وتغنيهم عن ملاحقة المخلوقين مطالبة وعتابًا وعقابًا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "العارف لا يرى لنفسه على أحدٍ حقًّا، ولا يرى لنفسه على أحدٍ فضلًا؛ ولذلك لا يعاتب، ولا يطالب، ولا يضارب".

فيكون مستغنيًا بالله عن العالمين، فتراه يصبر الصبر الجميل على الأذى بلا جزع، ويهجر الهجر الجميل بلا أذى، ويصفح الصفح الجميل بلا عتاب؛ تجده رحيمًا على المخالِف ولو كان كافرًا، يسترحم ربه له ويسعى لهدايته بكل وسيلة، يكره كفره وفسوقه وعصيانه، ولا يكره شخصه كراهية تعيقه عن دعوته: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ‌وَكَرَّهَ ‌إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (الحجرات:7).

انظر كم كانت رحمة إبراهيم -عليه السلام-؟ كادت تملأ السهل والوادي؛ مع أبيه مع الأذى والتهديد بالرجم قال: (‌سَلَامٌ ‌عَلَيْكَ ‌سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) (مريم:47)، ومع قوم لوط المجرمين ومع إتيان البشرى لم ينشغل: (‌فَلَمَّا ‌ذَهَبَ ‌عَنْ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ) (هود:74)، يجادلهم في تأخير العذاب عنهم وعن قريتهم، (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) (هود:75). والأواه: كثير التوجع والتأوه لأحوال الخلق!

لم تقتصِر الرحمة على القريب أو مَن معه في فئته وعصابته وطائفته، بل شملت المخالف، والعاصي والكافر، مع كراهية المنكر والسعي لإزالته باليد واللسان!

وانظر إلى رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالكفرة؛ حتى مع إيذائهم له الإيذاء الحسي والمعنوي، حتى كادت نفسه أن تهلك حزنًا عليهم! فعاتبه ربه في هذا، قال الله -تبارك تعالى-: (‌فَلَعَلَّكَ ‌بَاخِعٌ ‌نَفْسَكَ ‌عَلَى ‌آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (الكهف:6)، وقال: (‌فَلَا ‌تَذْهَبْ ‌نَفْسُكَ ‌عَلَيْهِمْ ‌حَسَرَاتٍ) (فاطر:8)، وقال -تعالى-: (‌فَبِمَا ‌رَحْمَةٍ ‌مِنَ ‌اللَّهِ ‌لِنْتَ ‌لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران:159).

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاء ملك الجبال، فقال: "يَا مُحَمَّدُ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ ‌الْأَخْشَبَيْنِ؟"، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) (متفق عليه)، فقال ذلك -صلى الله عليه وسلم- مع القدرة على الانتقام منهم بأن يطبق ملك الجبال عليهم الأخشبين!

ورحمة الصالحين المصلحين: كرحمة مؤمن آل ياسين بقومه، مع الضرب والسحل، والدوس بالأقدام حتى خرجت أمعاؤه من دبره ولفظ أنفاسه الطاهرة الأخيرة، وصوته يجلجل: (‌إِنِّي ‌آمَنْتُ ‌بِرَبِّكُمْ ‌فَاسْمَعُونِ) (يس:25)، ثم قيل له: (ادْخُلِ الْجَنَّةَ)، فانطلقت منه صرخة رحمة وشفقة تشق صدور القساة وغلاظ القلوب: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (يس:26-27).

هذه رحمته بمَن آذاه وقتله وهو يدعوهم إلى الله، ويريد بهم الخير!

منطلق الرحمة في الدعوة إلى الله منطلق رباني يشكِّل رؤية مختلفة للداعية، وهو في آتون الصراع والتدافع بين الحق والباطل، ومِن ثَمَّ تختلف سلوكياته ومظاهر بذله وتضحياته في دعوته وإصلاحه؛ فهل اصطحبنا هذه النفسية: (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ ‌عَلَيْكُمْ ‌يَوْمَ ‌التَّنَادِ) (غافر:32)؟!

وهل اصطحبنا هذه المشاعر: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ ‌عَذَابَ ‌يَوْمٍ ‌كَبِيرٍ) (هود:3)؟!

وهل اصطحبنا هذه الأحاسيس: (مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا، قَالَ فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، هَلُمَّ عَنِ النَّارِ، هَلُمَّ عَنِ النَّارِ فَتَغْلِبُونِي ‌تَقَحَّمُونَ ‌فِيهَا) (متفق عليه)؟!

الرحمة منطلق مفقود في دعوتنا وصحوتنا داخل البيت وخارجه، وفي أخلاقنا، وفي أدبيات خلافاتنا مع الموافق والمخالف داخل مؤسستنا وغيرها؛ ولذلك لا نزال نكلِّم أنفسنا ودعوتنا محصورة في فئة دون فئة، وطائفة دون طائفة محجرة عن العالمية والقرب من قلوب وعقول الجماهير لفقد هذا المنطلق.

فلا بد أن يختفي من حياتنا ودعواتنا التعدي والتكفير، والتنفيق بالباطل، وتيئيس الخلق من رحمة ربهم بلسان الحال أو المقال، مثل: "والله لا يغفر الله لك!"، أو "ليس لك توبة!"، والقسوة على المخالفين أو المبتدعين بالشماتة أو الفرح فيهم حتى مع مَن أذاهم، والتعيير والتنابز بالألقاب؛ فرحمة الله واسعة تسع كل شيء، وذنوبهم مهما عظمت فهي شيء، فرحمته حَرِيَّة بأن تدرك مثل فرعون فما بالك بمَن دونه؟! قال جبريل -عليه السلام- لمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: (يَا مُحَمَّدُ فَلَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخُذُ مِنْ حَالِ البَحْرِ فَأَدُسُّهُ فِي فِيهِ مَخَافَةَ ‌أَنْ ‌تُدْرِكَهُ ‌الرَّحْمَةُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

فلتكن بالرحمن خبيرًا، تدل عليه بسمتك وأخلاقك، وسلوكياتك ودعوتك.