الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 04 فبراير 2021 - 22 جمادى الثانية 1442هـ

لا يجتمعان... منهج الله والشقاء

كتبه/ خالد آل رحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلا شك أن كثيرًا من الناس يخاف من هذه الكلمة: "الشقاء"، بل وتسبب له إزعاجًا كبيرًا؛ لأن طبيعته الإنسانية ونفسه البشرية تأبى الشقاء، بغض النظر عن عقيدتها ودينها، فلن تجد إنسانًا على وجه الأرض يحب أن يكون شقيًّا، فمن أراد السعادة والبعد عن الشقاء يلزمه الرجوع لمنهج الله -تعالى-؛ فلا يجتمع فيمن يعمل وفق منهج الله شقاء أبدًا في الدنيا والآخرة، والشقاء هو:

مصدر شقى، وهو العسر والتعب، والشدة والمحنة.

وقيل: الضلال.

وقيل: الشقاوة: ضد السعادة.

ويعيش في شقاء أي: في بؤس وعسر وعناء.

قال الشاعر:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله         وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

وقال الشاعر:

ما زلـت أسمع بالشقاء روايـة           حتى رأيت بك الشقاء مصورًا

وقد وردت كلمة الشقاء في القرآن بمشتقاتها في مواطن كثيرة، ولكن العجيب أنها وردت في ست مواطن تخبرنا أن مَن يلتزم منهج الله بكل أفعال الخير "ومنها هذه الأفعال الستة"؛ فلن يكون شقيًّا، ولن يصيبه الشقاء في الدنيا والآخرة -بفضل الله تعالى-، وهذا مِن عظمة الإسلام، وروعة القرآن وبلاغته.

فتأمل هذه الأعمال التي ذُكرت في ستة مواطن في القرآن الكريم:

الموطن الأول: أنه لا يجتمع الشقاء مع خشية الله -تعالى-: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى . وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) (الأعلى:10-11).

قال السعدي -رحمه الله-: "فإن خشية الله -تعالى- وعلمه بأن سيجازيه على أعماله توجب للعبد الانكفاف عن المعاصي والسعي في الخيرات".

قال الطبري -رحمه الله-: "(وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) وهم الذين لم تنفعهم الذكرى".

الموطن الثاني: أنه لا يجتمع الشقاء مع تقوى الله -تعالى-: (لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى . الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (الليل:15-16).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: وسيزحزح عن النار التقي الأتقى".

وقال القرطبي -رحمه الله-: "قوله -تعالى-: (وَسَيُجَنَّبُهَا) (الليل:17)، أي: يكون بعيدًا منها، (الْأَتْقَى) أي: المتقي الخائف).

قال قتادة والأشقى: "هو الذي كذب بكتاب الله، وتولى عن طاعة الله".

الموطن الثالث: أنه لا يجتمع الشقاء مع اتباع الهدي؛ لقول الله -تعالى-: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) (طه:123).

قال السعدي -رحمه الله-: "أي: وقت جاءهم ذلك الهدى الذي هو الكتب والرسل، فإن مَن اتبعه اتبع ما أمر به واجتنب ما نهي عنه فإنه لا يضل في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يشقى فيهما، بل قد هدي إلى صراط مستقيم في الدنيا والآخرة، وله السعادة والأمن في الآخرة".

وقال الشعبي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أجار الله -تعالى- تابع القرآن مِن أن يضل في الدنيا، ويشقى في الآخرة، وقرأ هذه الا?ية".

قال الطبري -رحمه الله-: "(ولا يَشْقَى) في الآرخرة بعقاب الله؛ لأن الله يدخله الجنة وينجيه من عذابه".

الموطن الرابع: أنه لا يجتمع الشقاء مع القرآن الكريم؛ لقول لله -تعالى-: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه:2).

قال السعدي -رحمه الله-: "أي: ليس المقصود بالوحي، وإنزال القرا?ن عليك وشرع الشريعة، لتشقى بذلك، ويكون في الشريعة تكليف يشق على المكلفين، وتعجز عنه قوى العاملين؛ وإنما الوحي والقرا?ن والشرع شرعه الرحيم الرحمن، وجعله موصلًا للسعادة والفلاح والفوز، وسهله غاية التسهيل، ويسر كل طرقه وأبوابه، وجعله غذاءً للقلوب والأرواح، وراحة للأبدان، فتلقته الفِطَر السليمة، والعقول المستقيمة بالقبول والإذعان؛ لعلمها بما احتوى عليه من الخير في الدنيا والآخرة".

وقال البغوي -رحمه الله-: "أي: لتتعنى وتتعب".

وقال قتادة -رحمه الله-: "(مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى): لا والله ما جعله شقاءً، ولكن جعله رحمة ونورًا،  ودليلًا إلى الجنة".

الموطن الخامس: أنه لا يجتمع الشقاء مع دعاء الله -تعالى-: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) (مريم:4).

قال السعدي -رحمه الله-: "أي: لم تكن يا ربِّ تردني خائبًا، ولا محرومًا من الإجابة".

وقال البغوي -رحمه الله-: "يقول: عودتني الإجابة فيما مضى، ولم تخيبني".

الموطن السادس: أنه لا يجتمع الشقاء مع برِّ الوالدين؛ لقول الله -تعالى-: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) (مريم:32).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي) أي: وأمرني ببر والدتي، ذكره بعد طاعة الله ربه؛ لأن الله -تعالى- كثيرًا ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين، كما قال -تعالى-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (الإسراء:23)، وقال: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان:14)

وقوله: (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) أي: ولم يجعلني جبارًا مستكبرًا عن عبادته وطاعته، وبر والدتي؛ فأشقى بذلك".

وقال بعض السلف: "لا تجد أحدًا عاقًّا لوالديه؛ إلا وجدته جبارًا شقيًّا، ثم قرأ: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)".

والحمد لله رب العالمين.