الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 02 سبتمبر 2020 - 14 محرم 1442هـ

وقفات مع قصة أصحاب الكهف (9) وقفة عقدية: وجوب الإيمان بالبعث والحساب

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن مِن أعظم الدروس المأخوذة من القصة، هو بيان قضية البعث والحساب بعد بيان قضية التوحيد، فقد قال الله -تعالى- بعد بعث الفتية: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ) (الكهف:21).

- فلقد كان مِن بركة دعوة الفتية -رضي الله عنه- في مدينتهم قبل خروجهم بثلاثة قرون أن آمن كثير من أهل المدينة، لا سيما بعد موت الملك الكافر الذي كان يضطهد دعوة التوحيد، ولكن بقي بعض الناس لا يزالون يتشككون في مسألة البعث والحساب، وأنهم إذا ماتوا لا يبعثون ولا يحاسبون، فكان بعث الفتية ورؤية أهل المدينة لهم جميعًا من أعظم الحجة على المتشككين ونصرة لدعوة الموحدين.

- ولقد كذب كثير من الناس قديمًا وحديثًا بالبعث والنشور، بل هناك ممَن آمنوا بالبعث والنشور والحساب، صورة على غير الصورة التي أخبرت بها الرسل.

- ولقد ذكر القرآن قول المكذبين وذمهم وكفرهم وتهددهم وتوعدهم، قال -تعالى-: (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ . وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (الأنعام:29-30).

ويمكننا أن نصنف المكذبين بالبعث والحساب إلى ثلاثة أصناف:

الأول: الملاحدة الذين أنكروا وجود الخالق، ومن هؤلاء كثير من الفلاسفة الدهرية الطبائعية، ومنهم الشيوعيون في عصرنا، وهؤلاء ينكرون صدور الخلق عن الخالق، فهم منكرون للنشأة الأولى والثانية، ومنكرون لوجود الخالق أصلًا.

- ولا يحسن مناقشة هؤلاء في أمر المعاد والبعث والحساب، بل يناقشون في وجود الخالق، ووحدانيته أولًا، ثم يأتي إثبات المعاد بعد ذلك؛ لأن الإيمان بالمعاد فرع عن الإيمان بالله.

الثاني: الذين يعترفون بوجود الخالق، ولكنهم يكذبون بالبعث والنشور، ومن هؤلاء العرب الذين قال الله فيهم: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) (لقمان:25)، وهم القائلون فيما حكاه الله عنهم: (أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَ?ذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَ?ذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (النمل:67-68)، وهؤلاء يدعون أنهم يؤمنون بالله، ولكنهم يدعون أن قدرة الله عاجزة عن إحيائهم بعد إمامتهم، وهؤلاء هم الذين ضرب الله لهم الأمثال، وساق لهم الحجج والبراهين لبيان قدرته على البعث والنشور، وأنه لا يعجزه شيء.

- الثالث: الذين يؤمنون بالمعاد على غير الصفة التي جاءت بها الشرائع السماوية، ومن هؤلاء اليهود والنصارى الذين ينكرون الأكل والشرب والنكاح في الجنة، ويزعمون أن أهل الجنة إنما يتمتعون بالأصوات المطربة والأرواح الطيبة مع نعيم الأرواح، وهم يقرون مع ذلك بحشر الأجساد مع الأرواح ونعيمها وعذابها (مجموع الفتاوى لابن تيمية 2/162 بتصرفٍ، القيامة الكبرى للأشقر، ص 70 بتصرفٍ يسيرٍ).

- وأما أهل التوحيد فهم يؤمنون بأن البعث خلق جديد، يعيد الله فيه العباد أنفسهم، ولكنهم يخلقون خلقًا مختلفًا شيئًا ما عما كانوا عليه في الحياة، فمَن ذلك أنهم لا يموتون مهما أصابهم البلاء في الآخرة، قال -تعالى-: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ) (إبراهيم:17)، وعن عمرو بن ميمون الأودي قال: "قَامَ فِينَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَقَالَ: يَا بَنِيَّ أَوَدُّ، أَنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، تَعْلَمُنَّ أَنَّ الْمَعَادَ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى-، ثُمَّ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ إِلَى النَّارِ، إِقَامَةٌ لَا ظَعْنَ، وَخُلُودٌ فِي أَجْسَادٍ لَا تَمُوتُ" (حلية الأولياء).

- وأهل الإيمان يؤمنون بأن البعث والحساب من مقتضى حكمة الله في خلقه، فالله خلق الخلق لعبادته، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان الطريق الذي يعبدونه به، فمن العباد من استقام على طاعة الله، ومنهم من رفض الاستقامة على طاعة الله، أفيليق بعد ذلك أن يموت الصالح والطالح، ولا يجزي الله المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) (القلم:35).

إن الكفرة الضالين هم الذين يظنون أن الكون خُلق عبثًا وباطلًا لا لحكمة، وأنه لا فرق بين مصير المؤمن المصلح، والكافر المفسد، ولا بين مصير التقى والفاجر، قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ . أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (ص:27-28).

وللحديث بقية في وقفاتٍ قادمةٍ -إن شاء الله-.