الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 10 فبراير 2020 - 16 جمادى الثانية 1441هـ

الأمان دستور العلاقات الوطيدة

كتبه/ غريب أبو الحسن

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

- فينسج الإنسان منذ ميلاده وحتى رحيله العديد من العلاقات المختلفة والتي لها بالغ الأثر على حياته، فبعض هذه العلاقات يَفتح له باب الأمل، وبعضها يغلقه، وبعض هذه العلاقات يكون سببًا لسعادته، وبعضها يسلبه الفرحة، بعض هذه العلاقات يجبر كسره، وبعضها يقصم ظهره.

- فلماذا إذًا تتوطد بعض العلاقات وتنهار أخرى؟

- دعونا نتأمل في علاقة هي مِن أقوى العلاقات على الإطلاق، وهي علاقة الأم بأبنائها: لماذا هي علاقة متينة ممتدة لا تنقطع إلا فيما ندر؟! بل لا تتوقف بموت أحد أطرافها، بل لا تتوقف إلا بموت الطرفين لبقاء حنين الذكرى عند مَن بقي، ومداعبة نسيم الشوق لقلبه كلما مرَّ طيف الراحل بحنايا فؤاده.

- علاقة الأم بأبنائها مِن أقوى العلاقات؛ لأنها علاقة يحيطها "الأمان" مِن كل جهة، أمان مِن التخلي، وأمان مِن الرحيل، وأمان مِن الهجر، وأمان مِن سوء الظن، وأمان زيف المحبة، وأمان مِن انقضاء المصلحة، وأمان مِن الانتقام عند الخلاف؛ هذا الأمان الذي يجعل الابن مهما أساء يعلم أن حضن أمه الدافئ هو ملاذه الذي لا يغلق عندما تغلق في وجهه كل الأبواب! ثم يأتي بعدها علاقة الأبوة، ثم علاقة الأخوة.

- إذًا فالأمان هو دستور العلاقات الوطيدة... كلما زاد الأمان في علاقة ما كانت وطيدة، وكلما قل الأمان كانت العلاقة في مهب الريح!

- ولو تأملنا في العلاقات الزوجية والتي تعاني فيه بلادنا من ارتفاع نسب الطلاق بشكل قياسي؛ لوجدنا أن سببًا رئيسيًّا له هو: "غياب الأمان"؛ الأمان المبني على دين الرجل وخلقه وأمانته، وعلى صلاح المرأة ودينها.

- فربما صرخت المرأة في وجه زوجها طالبة الطلاق في وقت نفراتها ومعارضتها له، وهي توقن أن دينه وأمانته سيجعلانه يحافظ على ميثاقه الغليظ، وأن تقواه لله ستجعله يتحملها وقت غضبها، وأنه أعقل مِن أن يهدم عشه في لحظة غضب.

- دينه وخلقه اللذان يؤمنانها من غائلته، فإن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها.

- دينه الذي يجعله عادلًا في تقييمها، فإن كره منها خلق رضي منها بآخر، فلا ينسى سابق إحسانها بموقف أساءت فيه.

- الأمان الذي يجعل الرجل كلما ضاق به الحال يوقن أن تلك المرأة الصالحة ستكون في عونه ولن تطلب منه حرامًا، بل تخبره أنها تصبر على الجوع، ولا تصبر على حرِّ جهنم.

- ويبدأ الأمان في الزواج بحسن الاختيار، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

- وقال -صلى الله عليه وسلم-: (فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ) (متفق عليه)، (الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ) (رواه مسلم).

- فالأمان في الزواج مرده للِّدين والصلاح، وحسن الخلق الذي يقود لحسن العشرة.

- والصداقة من العلاقات المهمة في حياة الإنسان؛ لما لها مِن كبير الأثر في اكتساب المرء صفات الخير والشر؛ لذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ) (رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الألباني)، وقال أيضًا: (الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ) (رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الألباني).

- بيد أن تقارب الصفات وكرم الطبع من العوامل التي تساعد على توطيد الصحبة والصداقة، فالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف.

- كما أنه مع تنافر الصفات غالبًا ما يُحكم على هذه العلاقات بالبين والانتهاء.

- كما أن الشخصيات المزاجية المتقلبة الذي إن رضي بالغ في المدح، وإن غضب بالغ في الذم، والذي يتقلب في غضبه ورضاه بغير سبب؛ هؤلاء مِن أصعب الشخصيات التي تستطيع أن تنسج معهم صحبة وصداقة، فالمزاجية خطرها الرئيسي أنها تنزع الأمان من الصداقة انتزاعًا.

- فالأمان في الصحبة اختيار أيضًا؛ أن تختار المؤمن التقي، والذي تكثر بينك وبينه القواسم المشتركة، سوي النفس، معتدل المزاج؛ لتثمر تلك العلاقة تعاونًا على البر والتقوى بأقصر طريق، وأن تفر من الشخصيات المزاجية، فالحياة أقصر من أن تقضيها وأنت تستوضح منه: لماذا غضب؟ أو تنفق الساعات لتبرهن أنك لم تخطئ!

- والأمان في العمل أن تختار القوي الأمين لإنجاز المهام، أن تختار الماهر وصاحب الكفاءة والمؤتمن، فهو خير مَن تكلف لإنجاز المهام.

- ولكن ينبغي أن يشعر -مَن اخترت- هو أيضًا بالأمان، فمِن الأمان أن تعده وتؤهله وتدربه على مهامه قبل أن تكلفه فتجعله يكتسب ثقة في نفسه.

- ومن الأمان أن تكافئه إن أحسن، وأن توجهه إن أخطأ.

- غير أنه من أعظم الأمان في هذا الباب هو العدل، أن يشعر بالعدل فلا يستبعد دون سبب، ولا يقدم عليه من دونه بغير معيار، إن من أهم أسباب استفراغ الوسع في العمل هو شعور الفرد بأن مؤسسته لا يظلم فيها أحد، وأن هناك معيارًا واضحًا لتقييم الأفراد، فبقدر حرص المؤسسة على منتسبيها يحرص الفرد على نجاح مؤسسته، والمدير الناجح هو الذي ينشر الأمان بين مرؤوسيه فيستر ما ينبغي أن يستر، ويدعم من يحتاج الدعم، ويقوم من يحتاج للتقويم.

- فسلام على مَن تطمئن أمه ببره، وزوجته بعشرته، وصديقه بصحبته، وأجيره بمعاملته، ورعيته بمسئوليته... وسلام سلام على ناشري الأمان.

- يبقى أن العمل التطوعي والخيري يحتاج لكل تلك الأسباب السابقة لتنجح علاقات التعاون على البر والتقوى فيه، فيحتاج إلى الدِّين والتقوى والصلاح، والأمان الوظيفي، والعدل والكفاءة والأمانة.

- ليثمر علاقة هي مِن أنبل العلاقات على ظهر الأرض؛ علاقة: "الحب في الله"، والتي هي ثمرة التعاون على البر والتقوى، فمهما ذُقت من حب، فحب الاجتماع على الطاعة مختلف المذاق، رائق المعنى، وارف الظلال.

- ودرجة الأمان فيه عالية؛ لأن الاجتماع كان لله وفي الله وبالله، ولنصرة دين الله لا لدنيا ولا جاه، ويوم يعكر صفوها صروف الدهر وعوارضه سرعان ما تتصافح القلوب وتتعانق الأرواح وتزعن لسلطان: "الحب في الله".

وأغـلق كل أبوابي لكي ما تأتي ذكراه

وأقطع حبل أفكاري عـل القلب يسـلاه

وأذكر من مسالبه لعل النفس تـزهـده

أعـيـد نـكـأ ما انـدمـل لأكرهه وأخشاه

وأمحو من قصيد الشعر أبياتًا تغازله

وأهـجـر حيث ما كنـت أسامره وألقـاه

وأنـفـاسي أحاصرها إن مـرت نسائمه

وأسـفـاري أتـابعـهـا بـتـرحـالي لأنساه

وأشواقي أواريها فهل تـبـرد حرائـقها

وأخفيها عسى أن يخبو من جمرٍ عساه

وأركاني تـعاهـدني بحـسـم فـي تـدابرنا

وأن اللين إن غَلَب فـلن يبـقى لها جــاه

فـإذا ما سَلَّم انتفضت أركـاني تـجـاوبـه

كـأن وعـودهـا ليل وجاء الصبح يغشاه

وأما القلب فانفلت وقد سبق يـصارحـه

بـأن البيـن عـذبه أتعبه وأن البعد أشقاه

فـيا ويحـكم دهـرًا أليس يـسـومكم قهرًا

أليس يطيل غيبته تعـادي الريح ساقـاه

أجابوني وقد شغلوا به عـني بأن الحب

سلطان إذا ما حل بقلب فيأمره وينهاه