الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 07 مايو 2019 - 2 رمضان 1440هـ

التلذذ بالقرآن

كتبه/ محمد خلف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن للقرآن لذة لا تعدلها لذة يجدها المؤمن في قلبه، وهذه هي جنة الدنيا، وهي السبيل لنيل جنة الآخرة؛ فهو أحسن الحديث، وأحسن القصص كما ذكر ابن جرير -رحمه الله- عن عون بن عبد الله، قال: "ملَّ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ملّةً، فقالوا: يا رسول الله حدثنا! فأنـزل الله -عز وجل-: اللَّهُ نَـزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ (الزمر:23). ثم ملوا ملَّةً أخرى فقالوا: يا رسول الله حدثنا فوق الحديث ودون القرآن -يعنون القصَص- فأنزل الله: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ . نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (يوسف:1-3)، فأرادوا الحديث فدَّلهم على أحسن الحديث، وأرادوا القصصَ فدلهم على أحسن القصص.

وهو ربيع القلوب كما في دعائه -صلى الله عليه وسلم-: (أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وكان مالك بن دينار -رحمه الله- يقول: "يا أهل القرآن... ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟! فإن القرآن ربيع القلوب كما أن الغيث ربيع الأرض".

وقال عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: "والله لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام ربنا!".

وقال الحسن البصري: "تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وفي تلاوة القرآن؛ فإن وجدتم والا فاعلموا أن الباب مُغلق".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما رأيتُ شيئًا يغذي العقل والروح، ويحفظ الجسم، ويضمن السعادة أكثر مِن إدامة النظر في كتاب الله -تعالى-" (مجموع الفتاوي).

ومحل هذه اللذة في القلوب، فإذا سعد وهنأ وتنعم القلب نعمت والتذت الجوارح كأثرٍ مِن آثار هذه اللذة، ولكن يُشترط حتى يلتذ القلب أن يقبل على القرآن تفهمًا وتدبرًا وإقبالًا، كما قال ابن جرير شيخ المفسرين -رحمه الله-: "عجبتُ لمَن يقرأ القرآن ولا يعرف معانيه كي يتلذذ به!".

فعلَّق -رحمه الله- التلذذ بالقرآن على تدبر معانيه، وأما مَن لم يتدبر فلن تحصل له هذه اللذة، وإن وجد بعضها ووجد أيضًا ثواب القراءة، وهذا مِن فضل الله ومنه على عباده أن أفسح لهم في أبواب الخيرات برحمته وفضله، لكن اللذة الكبرى لمن تدبر وتفهم، وكان همه أن يعرف مراد الله ليفعل ذلك في حياته، فينعم في حياته وبعد وموته ويوم القيامة بأمر الله، لا أن يكون الهم القراءة فحسب، كما قال الحسن البصري: "يا ابن آدم كيف يرق قلبك وإنما همتك آخر السورة؟!".

وقال ابن مسعود -رضي الله عنه- لعلقمة -وقد عجل في القراءة-: "فداك أبي وأمي رتل فإنه زين القرآن"، وقد ذكر ابن كثير في قَوْله -تعالى-: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) (المزمل:4): "أَيِ: اقْرَأْهُ عَلَى تَمَهُّلٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَوْنًا عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَأُ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-، قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ يَقْرَأُ السُّورَةَ فَيُرَتِّلُهَا، حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلِ مِنْهَا. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ: كَانَتْ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ الرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ الرَّحِيمِ" (تفسير ابن كثير).

وقد سئل أحد أهل العلم المختصين بالتفسير وعلوم القرآن عن كيفية التأثر بالقرآن فأجاب -حفظه الله-: "أن تخاطب به قلبك، مستحضرًا قوله -تعالى-: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ) (الشعراء:193-194)، قف عند (عَلَى قَلْبِكَ) وتدبرها طويلًا".

وانظر إلى أثره على جبير بن مطعم -رضي الله عنه- ولم يكن قد أسلم حينها، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (الطور:35-37)، قَالَ: "كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ!"، وَقَالَ: "وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا وَقَرَ الإِيمَانُ فِي قَلْبِي" (رواه البخاري).

فانظر إلى قوله: "كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ!"، وأيضًا وقال: "وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا وَقَرَ الإِيمَانُ فِي قَلْبِي" حتى توقن بأهمية أن تمرر آيات القرآن على قلبك فبه تحصل الطمأنينة، كما قال -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28).

اقبل بقلبك على كتاب ربك فإنه كلما اقتربت بقلبك كلما ازددت أنسًا ولذه، وقربًا ونعيمًا، وبهذا تحصل العظة والتذكرة بالإقبال والتدبر، كما قال -تعالى-: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص:29).

ومما يعينك على ذلك كبداية: أن تقرأ كتابًا عن غريب كلمات القرآن، ولو تيسر قراءة التفسير الميسر، أو غير ذلك مِن الكتب الميسرة حتى تكون خطوة على طريق القرب والأنس بكتاب الله -تعالى-.

اللهم اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا.