الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 27 أبريل 2019 - 22 شعبان 1440هـ

سنتقي الله فيمن عصى الله فينا

كتبه/ نصر رمضان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن النفوس مجبولةٌ على مقابلة المسيء بإساءته، وعدم العفو عنه؛ إلا إذا صبَّر العبد نفسه على ما تكره، وأجبرها على ما يحبه الله، فإذا استحضر جزيل الثواب، وأن مقابلته للمسيء بجنس عمله، لا يفيده شيئًا، ولا يزيد العداوة إلا شدة، وأن إحسانه إليه لا يضع من قدره؛ لأن مَن تواضع لله رفعه؛ هان عليه الأمر، وكان متلذذًا به، قال -تعالى-: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:34-35).   

فهذا إرشاد منه -سبحانه- إلى الترياق النافع في مخالطة الناس، وهو الإحسان إلى مَن يسيء، والترفع عن سفاهته وجهالته بالخصلة التي هي أحسن، وهي مقابلة السيئة بالحسنة، والتحلي بالصبر والحلم، فلا نقابل الإساءة بالإساءة -مع أنه يجوز معاقبة المسيء بمثل إساءته-، ولكن ندفع الإساءة بالإحسان، وهذا -بلا شك- شديدٌ على النفس؛ لأنها تكره الغلبة، فتطلبُ الانتقام، فلا يوفق لذلك إلا مَن عظم حظه مِن الله (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

وتأمل حال النبي -صلى الله عليه وسلم- يحكي نبيًّا مِن الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) (متفق عليه)، كيف جمع في هذه الكلمات مِن مقامات الإحسان التي قابل بها إساءاتهم العظيمة إليه، فقد عفا عنهم واستغفر لهم، واعتذر عنهم بأنهم لا يعلمون! واستعطافه لهم بإضافتهم إليه، فقال: (اغْفِرْ لِقَوْمِي).

قال يوسف -عليه السلام- لإخوته بعد ما أصبحوا في ملكه وتحت سلطانه: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف:92).

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة؛ فإذا فعلوا ذلك عصمهم من الشيطان، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم".

وقال قتادة: "إن ظلمك فلا تظلمه، وإن فجر بك فلا تفجر به، وإن خانك فلا تخنه؛ فإن المؤمن هو الموفي المؤدي، وإن الفاجر هو الخائن الغادر".

وقال الحسن: "المؤمن حليمٌ لا يجهل وإن جُهل عليه، وتلا قوله -تعالى-: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (الفرقان:63).

واغتاظت عائشة -رضي الله عنها- على خادمٍ لها ثم قالت لنفسها: "لله درُ التقوى، ما تركت لذي غيظٍ شفاءً!"، وقال سفيان: "كان ابن عياش يقع في عمر بن ذر ويشتمه، فلقيه عمر فقال: يا هذا، لا تُفرط في شتمنا، وأبقِ للصلح موضعًا، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر مِن أن نُطيع الله فيه!".

قل ما بدا لك من زورٍ ومن كـذبٍ                   حـلمي أصـم وأذنـي غـيـر صماء

قال عمرو بن أوس: "المخبتون الذين لا يَظلمون، وإذا ظُلموا لم ينتصروا"، وقال عبد الله بن المبارك: "قرأت على ابن جريج، عن مجاهد: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (الفرقان:73)، قال: "إذا أوذوا صفحوا"، وقال الهيثم بن معاوية: "مَن ظُلم فلم ينتصر بيدٍ ولا لسان، ولم يحقد بقلبٍ، فذاك يُضيء نوره في الناس".

فللمؤمن مع عدوه وحاسده إحدى حالتين: إما أن يملكه بإحسانه؛ فينقاد ويذل له، ويبقى مِن أحب الناس إليه. وإما أن يُفتت كبده ويقطع دابره؛ إن أقام على إساءته إليه، فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه، ومَن جرَّب هذا عرفه حق المعرفة.

قال الأحنف بن قيس: "ما عاداني أحدٌ قط إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال: إن كان أعلى مني عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان نظيري تفضلت عليه".

فإذا كنت ترجو من ربك أن يقابل إساءتك بإحسان؛ فأحسن إلى مَن أساء إليك مِن خلقه؛ فإن الجزاء مِن جنس العمل, فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك؛ يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك، فانتقم بعد ذلك أو اعف، وأحسن أو اترك، فكما تدين تدان، قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "مَن خاف الله لم يشفِ غيظه، ومَن اتقى الله لم يصنع كل ما يريد، ولولا يوم القيامة كان غير ما ترون".