الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 24 يناير 2019 - 18 جمادى الأولى 1440هـ

تأملات في حجة الوداع (27)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ، فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ؛ وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ؛ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ، فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا. ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ، فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ؛ فَقَالَ: انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ. فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ" (رواه مسلم).

قال النووي -رَحِمَهُ اللهُ-: "قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَنْحَرَ مَوْضِعٌ مُعَيَّنٌ مِنْ مِنًى، وَحَيْثُ ذَبَحَ مِنْهَا أَوْ مِنَ الْحَرَمِ أَجْزَأَهُ <قلتُ: والدليل على ذلك، قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ" رواه أحمد وأصحاب السُنَن والحاكم في المستدرَك وقال: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ>.

وَفِيهِ: اسْتِحْبَابُ تَكْثِيرِ الْهَدْيِ، وَكَانَ هَدْيُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِائَةَ بَدَنَةٍ.

وَفِيهِ: اسْتِحْبَابُ ذَبْحِ الْمُهْدِي هَدْيَهُ بِنَفْسِهِ، وَجَوَازُ الِاسْتِنَابَةِ فِيهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ إِذَا كَانَ النَّائِبُ مُسْلِمًا، وَيَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ النَّائِبُ كَافِرًا كِتَابِيًّا بِشَرْطِ أَنْ يَنْوِيَ صَاحِبُ الْهَدْيِ عِنْدَ دَفْعِهِ إِلَيْهِ أَوْ عِنْدَ ذَبْحِهِ. وَقَوْلُهُ "مَا غَبَرَ" أَيْ: مَا بَقِيَ.

وَفِيهِ: اسْتِحْبَابُ تَعْجِيلِ ذَبْحِ الْهَدَايَا وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَلَا يُؤَخِّرُ بَعْضَهَا إِلَى أَيَّامِ التَّشْرِيقِ...

قَوْلُهُ: "أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا"؛ الْبَضْعَةِ: هِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ.

وَفِيهِ: اسْتِحْبَابُ الْأَكْلِ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَأُضْحِيَّتِهِ؛ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَمَّا كَانَ الْأَكْلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ سُنَّةً، وَفِي الْأَكْلِ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمِائَةِ مُنْفَرِدَةً كُلْفَةٌ؛ جُعِلَتْ فِي قِدْرٍ لِيَكُونَ آكِلًا مِنْ مَرَقِ الْجَمِيعِ الَّذِي فِيهِ جُزْءٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ، وَيَأْكُلُ مِنَ اللَّحْمِ الْمُجْتَمِعِ فِي الْمَرَقِ مَا تَيَسَّرَ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَأُضْحِيَّتِهِ سُنَّةٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ" (شرح النووي على مسلم 8/ 192).

قلتُ: ذكر النووي -رَحِمَهُ اللهُ- الأكل مِن هدي التطوُّع، وهدي القِران، والتمتُّع مِن الهدي الواجب، وقد أكل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منه؛ فهذا دليلٌ على مشروعية الأكل مِن هَدي التطوُّع والقِرَان، وليس أن ذلك مختصُ بهدي التطوع فقط كما ذكره؛ لأن مذهبهم فيه خلاف هذا الدليل، وقد بَوَّب مجد الدين ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- في "منتقى الأخبار": "باب الأكل مِن دم التمتع والقران والتطوع"، ولا شك أن هذا أحسن بكثيرٍ مما ذكره النووي -رَحِمَهُ اللهُ-.

قال الشوكاني -رَحِمَهُ اللهُ- بعد أن ذكر حديث جابر: "وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْ الْهَدْيِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَا كَانَ مِنْهُ تَطَوُّعًا وَمَا كَانَ فَرْضًا؛ لِعُمُومِ قَوْله -تَعَالَى-: (فَكُلُوا مِنْهَا) (الحج:28)، وَلَمْ يُفَصِّلْ؛ وَالتَّمَسُّكُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الزَّكَاةِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ لَا يَنْتَهِضُ لِتَخْصِيصِ هَذَا الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ شَرْعَ الزَّكَاةِ لِمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ؛ فَصَرْفُهَا إلَى الْمَالِكِ إخْرَاجٌ لَهَا عَنْ مَوْضُوعِهَا، وَلَيْسَ شَرْعُ الدِّمَاءِ كَذَلِكَ، لِأَنَّهَا إمَّا لِجَبْرِ نَقْصٍ أَوْ لِمُجَرَّدِ التَّبَرُّعِ؛ فَلَا قِيَاسَ مَعَ الْفَارِقِ، فَلَا تَخْصِيصَ" (نيل الأوطار،5/ 126).

قلتُ: إلا أن الدم الواجبَ لتَركِ واجبٍ -خلا دم التمتع والقران الذي ثبت فيه الدليل- عامةُ أهلِ العلم على عدم جواز الأكل منه.

ومما يدل على استحباب الأكل من هدي التمتع، حديث عائشة المُتَّفَق عَلَيْه: "فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَزْوَاجِهِ"؛ وعائشة كانت قارِنة، وغيرها مِن أزواج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُنَّ مُتَمَتِّعات بأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأنهن لم يسقن الهدي، وقد أكَلْنَ من هذا اللحم.

ونحرُ الهَدي مِن الواجبات التي أمر بها الله -عَزَّ وَجَلَّ- في كتابه، فقال -سبحانه-: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج:28-29)، وما زلتُ أتعجَّبُ؛ كيف نَحَر الرسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كلَّ هذا العدد بيَدِه الشريفة، وأعطى عَلِيًّا فنَحَر ما بقي منها مِن تمام المِائَة ناقة، ثم انتظر حتى قطع مِن كل واحدة قطعة لحم، ثم طُبخ ذلك، ثم أكَل مِن لحمها وشَرب مِن مَرَقها، ثم ركب إلى مَكَّة وطاف قبْل الظهر، وذبحُ البقرة أو البَدَنة عندنا، ربما يستغرق النهار إلى آخره حتى يحقق الإنسان السُنَّة بالأكل منها؛ إذا حرص على اتباع السُنَّة التي أَكَّدَها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن قصد إلى قطعة لحم مِن كل بَدَنة، ليشرب مِن المَرَق الذي يتضمن جزءًا مِن كلِّ واحدة، لمَشَقَّة الأكل مِن كل واحدة على حِدَتِها كما ذكر النووي -رَحِمَهُ اللهُ-.

ثم رأيتُ العجب أكثر مِن حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ عند أحمد وأبي داود، أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ القَرَّ) -أي: يوم الحادي عشر من ذي الحجة- وَقُرِّبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَمْسُ بَدَنَاتٍ أَوْ سِتٌّ، يَنْحَرُهُنَّ، فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إِلَيْهِ؛ أَيَّتُهُنَّ يَبْدَأُ بِهَا! فَلَمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا، قَالَ كَلِمَةً خَفِيَّةً لَمْ أَفْهَمْهَا؛ فَسَأَلْتُ بَعْضَ مَنْ يَلِينِي: مَا قَالَ؟ قَالُوا: قَالَ: (مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

قال الشوكاني -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَفِي هَذِهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: حَيْثُ تُسَارِعُ إلَيْهِ الدَّوَابُّ الَّتِي لَا تَعْقِلُ لِإِرَاقَةِ دَمِهَا تَبَرُّكًا بِهِ؛ فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ؛ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا النَّوْعُ الْبَهِيمِيِّ أَهْدَى مِنْ أَكْثَرِهِ وَأَعْرَفَ؟ تَقْرُبُ هَذِهِ الْعُجْمُ إلَيْهِ لِإِزْهَاقِ أَرْوَاحِهَا وَفَرْيِ أَوْدَاجِهَا، وَتَتَنَافَسُ فِي ذَلِكَ وَتَتَسَابَقُ إلَيْهِ مَعَ كَوْنِهَا لَا تَرْجُو جَنَّةً وَلَا تَخَافُ نَارًا، وَيَبْعُدُ ذَلِكَ النَّاطِقُ الْعَاقِلُ عَنْهُ مَعَ كَوْنِهِ يَنَالُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ النَّعِيمَ الْآجِلَ وَالْعَاجِلَ وَلَا يُصِيبُهُ ضَرَرٌ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ! حَتَّى قَالَ الْقَائِلُ مُظْهِرًا لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى قَتْلِ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَيْنَ مُحَمَّدُ؟ لَا نَجَوْت إنْ نَجَا!"، وَأَرَاقَ الْآخَرُ دَمَهُ وَكَسَرَ ثَنِيَّتَهُ؛ فَانْظُرْ إلَى هَذَا التَّفَاوُتِ الَّذِي يَضْحَكُ مِنْهُ إبْلِيسُ، وَلِأَمْرٍ مَا كَانَ الْكَافِرُ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ" (انتهى كلامه مِن نيل الأوطار 5/ 155).

وإنما نَفَرَت مِنَّا الحيوانات لِبُعدِنا عن هدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسَمْتِه ورحمته وشفقته؛ وكلما اقتربنا كلما يَسَّر الله لنا أمرنا، وأعاننا على التزام كتابه وسُنَّة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وسَخَّر لنا ما حولنا مِن الكائنات تعيننا على ذلك.

ولم يَذكر جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في حديثه هنا حلق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد نَحرِه هَديه، ولقد ثبت في صحيح مسلم وأحمد وأبي داود عن أنس، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَى مِنًى، فَأَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى وَنَحَرَ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَلَّاقِ: (خُذْ)، وَأَشَارَ إِلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ. وعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ)، قَالُوا: وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ)، قَالُوا: وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَهَا ثَلَاثًا، وفي الثالثة قَالَ: (وَلِلْمُقَصِّرِينَ) (متفق عليه).

وفيه: استحباب البَدَاءَة في حَلْقِ الرأس بالشق الأيمن مِن رأس المحلوق، وهو مذهب الجمهور.

وقوله: "ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ": فيه: مشروعية التبرك بشَعر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وآثاره، وهو مِن خصائص الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-؛ لقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ) (البقرة:248)، أما غيرهم مِن أهل الفضل: فإن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- تَرَكوا التبرُّك بآثار أفضل الناس بعد الأنبياء؛ أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والعشرة المبشرين بالجنة، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان؛ فلم يتبركوا بشَعر أبي بكر، ولا بنُخَامَة عُمَر، ولا بوَضُوء عثمان، ولا بثياب عَلِيٍّ؛ وهذا كالإجماع منهم، لم يُنقل عنهم حرفٌ في ذلك، سوى ما نُقِل عن فِعلهم ذلك بالنبي -صلى الله عليه وسلم-.

وفي الدعاء ثلاثًا للمُحَلِّقِين ومَرَّةً واحدة للمُقَصِّرِين دليل على فضل التحليق.

والاحاديث دليل على مشروعية حلق الرأس أو تقصيره، وقد قال بركنيته كثيرٌ مِن أهل العلم، وهذا ظاهِرٌ، ومنهم مَن قال بوُجوبه، ومنهم مَن ذَهَبَ إلى أنه ليس بنُسُكٍ، بل هو تحليل محظور، والجمهور ذهبوا إلى أنه نُسُكٌ، خلافًا لعطاء وأبي يوسف ورواية عن أحمد وبعض المالكية والشافعي في رواية عنه ضعيفة، والصحيح أنه ركن؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ) (رواه مسلم)، وقد حلق رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فالأصل في ذلك الركنية، وهذا في حق الرجال؛ وأما النساء فليس عليهن حلق؛ وعليهن التقصير؛ لحديث ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ، إِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وعن ابن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أن النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَبَّدَ رَأْسَهُ وَأَهْدَى، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَمَرَ نِسَاءَهُ أَنْ يَحْلِلْنَ؛ قُلْنَ: مَا لَكَ أَنْتَ لَا تَحِلُّ؟ قَالَ: (إِنِّي قَلَّدْتُ هَدْيِي، وَلَبَّدْتُ رَأْسِي؛ فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنْ حَجَّتِي، وَأَحْلِقَ رَأْسِي) (رواه أحمد، وصححه الشيخ أحمد شاكر).

قال مجد الدين ابن تيمية: "وهو دليلٌ على وجوب الحلق، والحديث رواه أحمد، وقَوَّى إسنادَه البخاريُّ في التاريخ، وحَسَّنَهُ الحافظُ ابن حجر".

وبِحَلْق الشَّعر أو تقصيره يَحِلُّ كلُّ شيء إلا النساء حتى يطوفَ بالبيت، عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قالت: "كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ" (متفق عليه)، وللنسائي: "طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ بَعْدَ مَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ"، والحديث الأول عن عائشة يُفَسِّر الثاني؛ فهو لم يطيَّب بعد جمرة العقبة مباشرة، وإنما بعد أن نَحَر هَديه وحَلَق رأسَه، وهنا تَطَيَّب؛ وليس كما يظن البعض أن برمية الجمرة دون الذبح ودون الحلق يحل له كل شيء، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) (البقرة:196)، ومَحِلّه يوم النحر بالذبح فيه، والله أعلى وأعلم.

قوله: "ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ": فيه دليلٌ على استحباب الركوب مِن مِنَى إلى مَكَّة لطواف الإفاضة.

قال النووي -رَحِمَهُ اللهُ-: "هَذَا الطَّوَافُ هُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَوَّلُ وَقْتِهِ عِنْدَنَا مِنْ نِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَأَفْضَلُهُ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَذَبْحِ الْهَدْيِ وَالْحَلْقِ؛ وَيَكُونُ ذَلِكَ ضَحْوَةَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَيَجُوزُ فِي جَمِيعِ يَوْمِ النَّحْرِ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ بِلَا عُذْرٍ، وَتَأْخِيرُهُ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَشَدُّ كَرَاهَةً، وَلَا يَحْرُمُ تَأْخِيرُهُ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةً، وَلَا آخِرَ لِوَقْتِهِ؛ بَلْ يَصِحُّ مَا دَامَ الْإِنْسَانُ حَيًّا؛ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ حَتَّى لَوْ طَافَ لِلْإِفَاضَةِ بَعْدَ نِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ قَبْلَ الْوُقُوفِ ثُمَّ أَسْرَعَ إِلَى عَرَفَاتٍ فَوَقَفَ قَبْلَ الْفَجْرِ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ لِأَنَّهُ قَدَّمَهُ عَلَى الْوُقُوفِ.

وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ رَمَلٌ وَلَا اضْطِبَاعٌ إِذَا كَانَ قَدْ رَمَلَ وَاضْطَبَعَ عَقِبَ طَوَافِ الْقُدُومِ، وَلَوْ طَافَ بِنِيَّةِ الْوَدَاعِ أَوِ الْقُدُومِ أَوِ التَّطَوُّعِ وَعَلَيْهِ طَوَافُ إِفَاضَةٍ وَقَعَ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ فَحَجَّ بِنِيَّةِ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ تَطَوُّعٍ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُجْزِئُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ بِنِيَّةِ غَيْرِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ لَهُ أَسْمَاءٌ؛ فَيُقَالُ أَيْضًا: طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَطَوَافُ الْفَرْضِ وَالرُّكْنِ، وَسَمَّاهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا طَوَافَ الصَّدْرِ وَأَنْكَرَهُ الْجُمْهُورُ؛ قَالُوا وَإِنَّمَا طَوَافُ الصَّدْرِ طَوَافُ الْوَدَاعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ" (شرح النووي على مسلم 8/ 192 - 193).

قلتُ: والذي يظهر أنه يلزمه أن يأتي بطواف الإفاضة قبْل انسلاخ ذي الحجة، والراجح قول مالك أنه إذا أَخَّرَه عن ذي الحجة -الذي هو مِن أشهر الحج- كاملًا، فإن عليه دم، ولكن لا يبطل حجه ما أتى به قبْل أن يموت.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: "فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ": فَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا فِي أَحَادِيثَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ مِنْ حديث ابن عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى، وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَافَ لِلْإِفَاضَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ مَرَّةً أُخْرَى بِأَصْحَابِهِ حِينَ سَأَلُوهُ ذَلِكَ؛ فَيَكُونُ مُتَنَفِّلًا بِالظُّهْرِ الثَّانِيَةِ الَّتِي بِمِنًى.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَّرَ الزِّيَارَةَ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى اللَّيْلِ؛ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَادَ لِلزِّيَارَةِ مَعَ نِسَائِهِ لَا لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ <مع أن هذا الحديث في طواف الزيارة لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلًا فيه ضعف>.

قوله: فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ؛ فَقَالَ: (انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ. فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ).

قال النووي -رحمه الله-: "وَمَعْنَاهُ: اسْتَقُوا بِالدِّلَاءِ وَانْزِعُوهَا بِالرِّشَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ "فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" فَمَعْنَاهُ: أَتَاهُمْ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَقَوْلُهُ "يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ" مَعْنَاهُ: يَغْرِفُونَ بِالدِّلَاءِ وَيَصُبُّونَهُ فِي الْحِيَاضِ وَنَحْوِهَا وَيُسْبِلُونَهُ لِلنَّاسِ.

وَقَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ) مَعْنَاهُ: لَوْلَا خَوْفِي أَنْ يَعْتَقِدَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَيَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَغْلِبُونَكُمْ وَيَدْفَعُونَكُمْ عَنْ الِاسْتِقَاءِ لَاسْتَقَيْتُ مَعَكُمْ؛ لِكَثْرَةِ فَضِيلَةِ هَذَا الِاسْتِقَاءِ، وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْعَمَلِ فِي هَذَا الِاسْتِقَاءِ، وَاسْتِحْبَابُ شُرْبِ مَاءِ زَمْزَمَ" (انتهى مِن شرح النووي على مسلم، 8/ 194).

والظاهر أنه يُستحب عقب الطواف بالبيت وصلاة ركعتي الطواف أن يشرب مِن ماء زمزم؛ لثبوت فعل ذلك عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد طواف القدوم والعمرة أول ما أتى وبعد طواف الإفاضة، والله أعلى وأعلم.

هنا انتهى حديث جابر، وبقيت بعض الفوائد في عمل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أيام التشريق، وبها نختم إن شاء الله سلسلة مقالاتنا حول "حجة الوداع".