الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 20 أكتوبر 2018 - 11 صفر 1440هـ

حرب العاشر مِن رمضان في مذكرات "موشى دايان" (1-2)

 كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعند وقوع حرب أكتوبر 1973م كان (موشى دايان) يشغل منصب وزير الدفاع في الحكومة الإسرائيلية التي ترأسها: (جولدا مائير)، أي أنه كان المسؤول العسكري الأول عن الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب، وقد كتب عنها في مذكراته، ولا شك أن كتابته عن هذه الحرب لها أهميتها، إذ هي كتابة مِن الطرف الآخر، وممَن عايشوها واكتوى بنارها يومًا بيوم، فجديرة أن تقرأ ويطلع عليها.   

مَن موشى دايان؟

موشى دايان -أو موشيه دايان- هو موشى دايان صمويل دايان، وُلد في 20 مايو 1915م، في مستوطنة (دجانيا) الإسرائيلية في فلسطين، مِن أبوين يهوديين هاجرا مِن أوكرانيا، واستقرا في فلسطين.  

تلقى تعليمه الابتدائي ثم التحق بمدرسة الزراعة، عمل مع القوات البريطانية في التصدي للثورة الشعبية الفلسطينية الكبرى (مِن عام 1936م إلى عام 1939م)، وتدرب على العمليات الانتقامية الخاطفة والهجمات الليلية، حكمتْ عليه سلطة الانتداب البريطاني في فلسطين بالسجن عام 1939م؛ بسبب نشاطه الإرهابي في تنظيم (الهاجاناة)، وهو تنظيم صهيوني غير رسمي مارس أعمالًا إرهابية واسعة ضد الفلسطينيين لإجبارهم على ترك أراضيهم وديارهم لإحلال اليهود مكانهم، لكن أطلق سراحه عام 1941م للمشاركة في القتال في صفوف البريطانيين أثناء الحرب العالمية الثانية، والتي أصيب خلالها بجروح، وفقئت عينه اليسرى فيها.

- شارك في حرب 1948م بيْن اليهود والعرب.

- عين عام 1950م -بعد قيام دولة إسرائيل- قائدًا للقطاع الجنوبي لإسرائيل، ثم ترأس المخابرات العسكرية.

- وفي عام 1952م تولى رئاسة الأركان العامة، ثم رئاسة أركان الجيش مِن عام 1953م إلى عام 1958م.

- شارك في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م.

- دخل الكنيست الإسرائيلي عام 1959، وتولى وزارة الزراعة لمدة خمس سنوات.

- تولى وزارة الدفاع مِن عام 1966 م إلى عام 1974 م، وأدى دورًا كبيرًا في حرب يونيو1967م، حتى صار رمزًا للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ولكن أسطورته انهارت بعد هزيمة أكتوبر 1973م.

- عين وزيرًا للخارجية عام 1977م، وكان له دور كبير في المفاوضات مع مصر، والتي انتهتْ بتوقيع معاهدة (كامب دافيد) في عام 1979م.

- استقال مِن منصبه عام 1979م، ومات في تل أبيب متأثرًا بسرطان القولون في 16 أكتوبر 1981م.

صباح يوم السادس مِن أكتوبر:

يذكر دايان أنه قد وصلته معلومات تحليلية مِن المخابرات ليلًا قرب صباح يوم الغفران (يوم كيبور)، وهو مِن أهم الأعياد الدينية عند اليهود، الذي وافق السبت 6 أكتوبر 1973م، عن إعداد مصر وسوريا لهجوم قبْل غروب شمس نفس اليوم، فأبلغها لـ(جولدا مائير)، واجتمع بقادة الجيش في مكتبه صباحًا؛ ونظرًا لأن مثل هذه المعلومات عن هجوم متوقع سبق أن تلقاها مِن قبْل ولم يعقبها هجوم، ولكن في ضوء تقارير المخابرات عن عملية لإجلاء الأسر السوفيتية مِن سوريا تعين التصرف على أساس افتراض شن الحرب، فتم بحث تعبئة الاحتياطي لدعم الجبهات، والإعداد لضربةٍ جويةٍ وقائيةٍ رادعة للقواعد الجوية في عمق سوريا قبْل الساعة الثانية عشر ظهرًا، وإجلاء النساء والأطفال مِن المستوطنات في هضبة الجولان، وإصدار تحذير لمصر وسوريا عن طريق أمريكا؛ لضمان وقوف أمريكا إلى جانب إسرائيل حال نشوب حرب ليستْ إسرائيل السبب فيها.

وذكر دايان أنه عارض فكرة الضربة الجوية الوقائية خشية أن تفسد الضربة العون المأمول مِن أمريكا حال وقوع الحرب، وبعد مناقشة مع رئيسة الوزراء تقرر تعبئة الاحتياطي، وإجلاء النساء والأطفال مِن الجولان، وصرف النظر عن الضربة الجوية، مع إنذار مصر وسوريا.

ثم يذكر دايان أنه توجَّه إلى حجرة العمليات في الحادية عشر صباحًا، وكان كل شيء هادئًا، وكان المتوقع حال وقوع الهجوم أن يحاول المصريون عبور القناة مِن مناطق معينة في زوارق مطاطية، وتلحق بهم قوات مِن الصاعقة محمولة بالهليكوبتر لإقام رؤوس جسور، ومحاولة الاستيلاء على -أو تخريب- حقول البترول في أبي روديس، والاستيلاء على شرم الشيخ للتحكم في مدخل خليج العقبة.

وكان وقوع الهجوم ليلًا -كما توقعته المعلومات المخابراتية- يحول بيْن الطائرات الإسرائيلية والتصدي للعبور، بما يعني قيام القوات البرية بالعمل الحاسم ليلًا ضد العبور، لحين عمل القوات الجوية في الصباح التالي.

بدأت أعمال التعبئة، ولكنها كانت تحتاج مِن 24-48 ساعة لاستكمالها، وكان توقع أن تكون الظروف الجوية لهذه الليلة قاسية يعطي الأمل بتأخر الهجوم بما يعطي الفرصة لتدعيم المواقع.

كان الشعور بالثقة سائدًا، ولكن كان وجه القلق مناقضة الأمر لطبيعة الجيش الإسرائيلي في عدم بدئه بخوض الحرب كما اعتاد، وبالتالي عدم التعبئة لها قبْل البدء فيها، وفي اجتماع عاجل لمجلس الوزراء في تل أبيب وافقت الحكومة على ما اتخذ مِن قرارات، ومنها طلب توضيحات مِن مصر وسوريا عن الوضع عن طريق أمريكا، وفي الساعة الثانية وخمس دقائق ظهرًا تم استدعاء دايان إلى غرفة العمليات؛ إذ تعرضت القوات الإسرائيلية للهجوم، وبدأت الحرب.

الهجوم كان مفاجأة:

يذكر دايان أن الهجوم جاء مفاجأة، وإن لم يكن أمرًا غير متوقع، كان تجدد الحرب متوقعًا عاجلًا أو آجلًا، ولكنه جاء يوم كيبور (عيد الغفران)، والقوات وإن كانت مستعدة، لكنها غير معبأة وغير موزعة كما يجب.

كانت هناك خطة موضوعة مسبقًا للتعامل مع أي هجوم مصري وسوري شامل، يترتب عليه عبور القوات المصرية للقناة، واحتلال سوريا لمرتفعات الجولان، وكان قد تم إعداد هذه الخطة وعرضها على دايان ورئيسة الوزراء، وقدرت تكلفتها بـ17 مليون دولار، وأرسلت تفاصيلها إلى قيادتي الجبهتين الشمالية (مع سوريا) والجنوبية (مع مصر)، وكانت الخطة موضوعة على أساس أن يصل الإنذار المبكر قبْل 24 ساعة على الأقل حتى تتم تعبئة قوات الاحتياط وإرسالها إلى الجبهات وقت اندلاع الحرب.

وعلَّق دايان على الأمر بقوله: "ويجب عليَّ أن أضيف هنا أن قوات العدو -يعني مصر وسوريا- شنت هجومها بكفاءةٍ أكبر مما وضعناه لها في حسابنا عند وضع هذه الخطط".

ويقول: "إن كلًّا مِن المخابرات الأمريكية ومخابراتنا توصلتا إلى أن مصر وسوريا لا تعدان للحرب، وفسرتا التحركات العسكرية الواسعة على الجبهة المصرية على أنها مناورات، وليستْ استعدادًا لغزو، ومع ذلك فلم نكن مرتاحين، وخاصة فيما يتعلق بالجبهة السورية".

وبيَّن سبب ذلك في موضع آخر فقال: "ولو أننا أخذنا بهجوم على الجبهة المصرية واضطررنا للتراجع إلى الخط الثاني، فإن الأمر لم يكن ليشكِّل لنا كارثة، فالأمر لا يعدو كونه انسحابًا إلى خط آخر في صحراء واسعة، أما بالنسبة للجبهة الشمالية فالوضع مختلف، فإن أي انسحاب هناك قد يؤدي إلى إلحاق ضرر بليغ بمستعمراتنا -يعني المستوطنات- في الجولان، وقد ينقل الجبهة -يريد جبهة القتال- إلى مناطقنا السكنية في الجليل الأعلى والجولة ووادي الأردن، ولم يكن فيها -على العكس مِن قناة السويس في الجبهة الجنوبية- أية عوائق طوبوغرافية أو موانع، وهذا بالإضافة إلى شبكة الصواريخ المضادة للطائرات التي بلغتْ حدًّا مِن الكثافة والتعقيد إلى درجة أنها كانت تغطي كل الجانب الإسرائيلي في مرتفعات الجولان".

وقال أيضًا: "ولكن لم نكن نستطيع تعبئة قواتنا لفترةٍ طويلةٍ، وإلا أضر بالدولة، وذلك في حد ذاته يمثِّل واحدًا مِن أوجه مشكلتنا الرئيسية، فنحن دولة صغيرة يقل تعدادها عن الثلاثة ملايين مِن اليهود تحيط بهم عشرات الملايين مِن العرب".

ويذكر دايان أنه في الاجتماع الأسبوعي لرئاسة الأركان يوم الجمعة 5 أكتوبر صدر القرار برفع حالة الطوارئ القصوى في الجيش والطيران؛ إذ كانت هناك معلومات عن تعزيزات وإمدادات جديدة على الجبهتين المصرية والسورية، ومغادرة لعائلات المستشارين الروس مِن سوريا، بينما أكد رئيس المخابرات (إيلي زاعيرا) أن الهجوم ليس واردًا، ووافقه في ذلك رئيس الأركان (دافيد اليعازر)، وكان التقييم الأمريكي أن لا مصر ولا سوريا تفكران في هجوم قريب، وكان رأي دايان أن كلًّا مِن مصر وسوريا في وضع يمكنهما مِن القيام بهجوم خلال ساعات.

وعلَّق دايان مِن جديدٍ بقوله: "ومع أننا لم نكن غافلين عن احتمال نشوب الحرب، فإن حرب كيبور اشتعلت في اليوم الوحيد الذي لم نكن نتوقعها فيه، وجاءت في يوم الغفران، وهو اليوم الوحيد الذي يقضيه كل اليهود في أنحاء العالم في الصوم والعبادة، وفي إسرائيل كان العمل متوقفًا والشوارع خالية، لا سيارة فيها ولا مشاة".

أحداث اليوم الأول للقتال:

يذكر دايان أن اليوم الأول للقتال كان شاقـًّا، فقدت فيه إسرائيل الكثير مِن الرجال والأراضي والمواقع، ولكن تقرير رئيس الأركان في العاشرة مساءً كان يتسم بالتفاؤل، إذ كان مِن المتوقع أن تفوق مصر وسوريا لن يستمر، فبمجرد وصول قوات الاحتياط إلى الجبهات ستستعيد إسرائيل ميزان القوى وعنصر المبادرة، ورغم كثرة المصريين الذين عبروا إلى الضفة الشرقية مِن عدة نقاط، ورغم الاستيلاء على أحد المواقع الحصينة، ورغم الأعداد الكبيرة مِن الأسلحة المضادة للدروع التي نقلوها، والصواريخ السوفيتية التي يستخدمها الأفراد، والتي تجعل الموقف ليس مرضيًا، خاصة وأن التعزيزات القوية لن تصل هناك إلا بعد يومين، أي في صباح يوم 8 أكتوبر، فإن الوضع وفقًا لرأي رئيس الأركان قابل للاحتواء.  

وطبقًا لهذه الظروف تم تغيير الخطة لمساعدة القيادة الجنوبية بضرب الجبهة المصرية بالطائرات بدلًا مِن ضرب الجبهة السورية، قال دايان: "وأحسستُ بالقلق يملأ قلبي؛ إذ لم أكن أشارك رئيس الأركان وقائد القيادة الجنوبية تفاؤلهما، لقد حقق المصريون مكاسب هائلة، وتعرضنا لضربةٍ موجعةٍ، فقد عبَّر المصريون القناة، وأقاموا جسورًا نقلوا عليها المدرعات والمشاة، ولم نكن قد فشلنا فقط في منعهم، بل إننا لم نسبب لهم إلا خسائر طفيفة في الأفراد والمعدات"، وقال: "ولم تعد مواقعنا الحصينة سوى فخاخًا للموجدين بها إن لم نستطع رد المصريين إلى الضفة الغربية".

وتم عقد اجتماع للوزارة في العاشرة مِن مساء أول يوم للاطلاع على مجريات الأمور، وقدَّم رئيس الأركان تقريره، يقول دايان: "لكني طلبتُ الحديث لكي أطلع الوزراء على الموقف بكل قسوته، وتقييمي لما قدمه رئيس الأركان. وقلتُ: إننا نواجه ثلاثة عوامل بالغة الصعوبة.

أولها: حجم قوات العدو المجهزة بأسلحة تراكمت عبْر السنوات الست الماضية، فالجيشان المصري والسوري ليسا الجيشين اللذين عرفناهم عام 1967م، بل هي قوات جيدة تم تجهيزها، ويملؤها التصميم والإصرار.

وثانيهما: هو سلاح الصواريخ بعد تدعيمه بالصواريخ سام 6، وإن لم تستطع قواتنا الجوية قهر هذا السلاح فلن يمكنها مد يد العون لدباباتنا، وتدمير مدرعات العدو.

أما العامل الثالث: فهو حاجتنا إلى المحافظة على الجبهات مع وجود قواتٍ قليلةٍ فيها إلى أن يتم استدعاء قوات الاحتياطي ووصولها إلى الجبهات. وقلتُ: إن المعركة الحرجة هي في منطقة القناة، فسوف يواجه طيراننا في صباح اليوم التالي تحديات خطيرة تتمثل في سلاح الطيران المصري وسلاح الصواريخ، وسوف نحتاج إلى قدرٍ كبيرٍ مِن الحظ في هذا اليوم، أما في اليومين الثالث والرابع (8 و9 أكتوبر) فستكون مدرعاتنا قد وصلتْ بالكامل إلى هذه الجبهة، وسوف تكون احتمالات النجاح جيدة".

وقال دايان: "وقلتُ لهم: إن العزاء الوحيد هو أن المعركة في الجبهة الجنوبية تجري في صحراء سيناء بعيدًا عن أرض إسرائيل التاريخية ومدنها المأهولة بالسكان".

وقال: "أما في الجبهة الشمالية فقد كانت توقعاتي أننا سنوقف الهجوم السوري".

ويذكر دايان أنه كان قلقًا ومرهقًا، ويشعر أن زملاءه في الوزارة لم يعجبهم ما ذكره عن نجاح المصريين، ويريدون أن يرد المصريين عبْر القناة فورًا؛ إذ كانت تسيطر عليهم روح التفاؤل التي أبداها رئيس الأركان، وفي منتصف الليل تم إبلاغ ممثل إسرائيل في الولايات المتحدة بأنه في غضون أيام سوف يتم طرد المصريين، وأن الموقف برغم النجاح المرحلي للعدو يدعو للرضا.

يذكر دايان أنه توجه في نفس الليلة بعد اجتماع مجلس الوزراء إلى القيادة العامة الخاصة بالطوارئ، فكان هم قادة الجبهات الدفاع عن خطوطهم ومنع اختراقها إلى أن تصلهم الإمدادات، ثم توجه إلى غرفة عمليات الطيران، حيث أشار بالحاجة إلى منع الطيران الإسرائيلي لتقدم القوات المصرية قبْل إدخالها لقوات مدرعة كبيرة إلى سيناء، إلى جانب إسكات بطاريات الصواريخ وضرب المعابر.

الوضع على الجبهة السورية:

يذكر دايان أن السوريين هاجموا بقواتٍ ضخمةٍ على طول الجبهة، مركزين على نقطتين في شمال وجنوب القنيطرة، وقد نجح اللواء السابع في الشمال -والذي كان مجهزًا جيدًا- أن يصد الهجوم السوري، أما لواء باراك في الجنوب فرغم صموده في القتال فقد تم اختراق خطوطه ليلًا في منطقة الحسنية جنوب القنطرة بثمانية أميال، وبدأ تقدم السوريين نحو الطرق التي تربط مرتفعات الجولان ببحر الجليل، حتى بلغتْ منتصف الطريق إلى نهر الأردن، وكانت قد صدرت الأوامر بإجلاء كل السكان والمدنيين في المستوطنات في يوم الغفران.

ولخطورة الوضع توجه دايان قبْل السادسة صباحًا يوم السابع مِن أكتوبر إلى الجبهة السورية، حيث إن عمق الجولان لا يبعد عن تل أبيب بأكثر مِن 15 ميلًا، حيث قرر ضرب الدبابات السورية بالطائرات دون أن تحاول -حسب المعتاد- إسكات قواعد الصواريخ أولًا، حيث إن هذا هو التصرف الوحيد لإيقاف السوريين إلى أن تصل إمدادات أخرى مِن المدرعات الإسرائيلية بعد ظهر اليوم، وبالفعل ظلت الطائرات الإسرائيلية تهاجم المدرعات السورية بلا توقف، مما أحدث تأثيرًا كبيرًا على الموقف، ودارت معركة عنيفة لإيـقاف تقدم السوريين إلى المستوطنات في الجليل الشمالي قُتل فيها قائد لواء باراك المدرع الإسرائيلي ونائبه، وعند حلول المساء تقهقر السوريون وزال خطرهم.  

وفي اليوم الثالث (8 أكتوبر) ضعفت مقاومة اللواء الإسرائيلي السابع في القطاع الشمالي بعد هجماتٍ قوية للسوريين طوال ثلاثة أيام أصيبتْ فيها معظم دبابات اللواء وقاربت فيها ذخيرة الدبابات البقية على النفاد، ولكن الدبابات السورية بدأت في الانسحاب.

في 9 أكتوبر تغيرت الحالة بعد القتال العنيف والخسائر الفادحة خاصة بيْن الضباط، وبدا أن الهجوم السوري قد انكسر، فتم سد الاختراق السوري، وتم دفع السوريين خلف الحدود إلى داخل سوريا، حيث واجه الإسرائيليون خطوطًا دفاعية قوية، وهجمات مكثفة مِن الطيران السوري، فلم يستطيعوا اختراق الدفاعات السورية، وفي نهاية الأسبوع الأول مِن الحرب على الجبهة الشمالية كان السوريون في موقف الدفاع، وارتدت الحالة إلى أراضيهم شرق الخطوط التي اخترقوها منذ ستة أيام.

الوضع على الجبهة المصرية:

يذكر دايان أن خط بارليف -وهو خط الاستحكام الأول- به 16 مِن الاستحكامات القوية على قناة السويس مباشرة، وهي عبارة عن نقاطٍ أماميةٍ صغيرةٍ، لكل نقطة مِن 20 - 30 جندي، وتبعد عن الأخرى نحو 5 أميال، وقد تعرضت كلها لقصفٍ شديدٍ ومركَّز ثم هجوم شامل، فكانت كل نقطة تحارب مستقلة وكأنها جزيرة منعزلة، وقد سقطت كل النقاط، عدا موقع يُدعى بودابست، وبعض المواقع اقتحمه المصريون وبعضها تم إخلاؤه؛ لم يحدث هذا في الحال، فرغم عبور المصريين للقناة فلم تسقط أي نقطة خلال الأربع والعشرين ساعة الأولى، حتى التي نجح المصريون في التسلل إليها عند بدء المعركة، كما لم تنجح أي نقطة في إيقاف تقدم المصريين في قطاعها، وقد نجحتْ بعض النقاط في إغراق زوارق للمصريين أثناء العبور، ووجه بعضها المدفعية والطيران للضرب الفعال لبعض الجسور وتجمعات القوات المصرية، وتسبب ذلك في خسائر، لكن لم تؤثر في حركة المشاة والمدرعات المصرية، وعندما كان يخفق المصريون في احتلال نقطة فإنهم كانوا يمرون عليها ويواصلون تقدمهم، عدا نقطت بودابست، لظروفها الطوبوغرافية الخاصة ردت المصريين رغم هجومهم العنيف، وأجبرتهم على العودة إلى بورسعيد.

أسباب سقوط نقاط خط بارليف:

يرى دايان أن سقوط هذه النقاط كان نتيجة لعزلها عن باقي القوات الإسرائيلية، وأنها لم تكن مستعدة لمواجهة مثل هذا الهجوم الضخم المكثف، ورغم قتالها بشجاعةٍ، لكن قتل الكثير مِن ضباطها، ورفضت الأوامر بالاستسلام أو الجلاء، فحوصرت، حتى انقطعت اتصالاتها بكل القوات فلم يعد لها القدرة على التمسك بالنقاط، وكان أقوى ما في هذه الاستحكامات هو الجزء الذي يقع تحت الأرض، ويضم حجرة العمليات ومضاجع الجنود، أما مراكز إطلاق النار وخنادق المواصلات، فكان مِن الضروري أن تكون على سطح الأرض، فسقطت هذه المواقع المكشوفة عندما تعرضت للقصف، ثم نيران الحصار، وقتل رجالها أو أجبروا على المغادرة، وكانت آخر نقطة تسقط ويؤخذ رجالها أسرى هي نقطة (ماسريك) التي تحكم المدخل الجنوبي لقناة السويس.

ويذكر دايان أن الدبابات التي كانت معدة للربط بيْن النقاط الحصينة وتقديم العون لها كانت على بعد 6 أميال للخلف، وعندما حاولت التقدم للأمام وجدت المصريين قد سبقوها إلى هناك، وتعرضت لنيرانٍ عنيفة، وتم تدمير معظمها وشل فاعليتها.

ويرى دايان أن رجال التحصينات لم يتم اختيارهم جيدًا، فكان معظمهم مِن قدامى الاحتياط، مرَّ عليهم عامان دون تدريباتٍ، وحالتهم النفسية لم تكن مهيأة للحرب، كما أن الأسلحة وأجهزة الإشارة كانت في مستوى أقل مِن المقبول نتيجة لحالة السلم، ولم تلقَ إمدادات وتعزيزات تمكِّنها مِن الحفاظ على أصعب خطوط الجيش المتقدمة وهو خط القناة.

وكلام دايان يدينه ويدين كل قياداته العسكرية، أن يكون هذا حال قواته على أهم جبهة قتالية عنده، ويبيِّن كلامه بوضوحٍ عنصر المباغتة والمفاجأة التي وضعته فيه القيادة المصرية.

يقول دايان: "غير أن الضغط الرئيسي عسكريًّا ونفسيًّا جاء عندما تدفق آلاف الجنود ومعهم الدبابات، واقتحموا الاستحكامات، واخترقوا حقول الألغام والبوابات، وتصدى المدافعون للمهاجمين، وعندما كانت مواقع إطلاق النار تسقط أو تخلى كان رجالنا ينتقلون إلى مواقع أخرى، وهم مستمرون في قتال الأعداء، وبمرور الساعات أصبح واضحًا للجنود أن موقفهم يزداد صعوبة، وأن احتمال وصول إمدادات لهم أصبح سرابًا، فقد سدت الطرق أمام وصول الدبابات إليهم، واحترقت الدبابات التي حاولت ذلك، وبدأ الرجال يطالبون بإخراجهم مما هم فيه"، ويقول: "وقد صمد موقع واحد حتى النهاية، بينما استسلمت المواقع الأخرى بعد أن يئست مِن وصول التعزيزات، ونفذت ذخيرتها، وقتل رجالها".

ويقول دايان: "وعلى أية حال، فإن المصريين لم يتقدموا خلال اليومين الأولين أكثر مِن بضعة أميال، وكان هذا الوقت كافيًا لكي نعبئ كل الاحتياطي، وتصل الإمدادات إلى ميدان القتال".

فماذا فعلتْ هذه الإمدادات مِن الاحتياطي في ميدان القتال بعد أن أُتيح لها الوقت الكافي لوصولها إلى ميدان القتال وهي في كامل قوتها؟!

هذا ما يجيب عليه (دايان) ويوضحه في الجزء الباقي مِن مذكراته.