الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 10 يونيو 2018 - 26 رمضان 1439هـ

مجاهدة النفس بكثرة السجود (11)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ومِن أذكار الركوع والسجود:

- ذكر: (سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ) (رواه مسلم).

(سُبُّوحٌ): أي المبرأ مِن النقائص والشريك، وكل ما لا يليق بالإلهية، مِن سبحتَ الله، أي: نزهته.

(قُدُّوسٌ): أي المطهر مِن كل عيب، العظيم في النزاهة عن كل ما يستقبح.

(الرُّوحِ): قيل: المراد به جبريل -عليه السلام-، وخُص بالذكر تفضيلًا له على سائر الملائكة. وقيل: المراد صنف مِن الملائكة، وهذا كقوله -تعالى-: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) (النبأ:38)، وقوله -تعالى-: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (القدر:4). ويحتمل الروح الذي به قوام كل حي، أي رب الملائكة ورب الروح، والله أعلم.

- ذكر: (سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ) (رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه الألباني).

(ذِي الْجَبَرُوتِ): الجبروت مِن الجبر وهو القهر، وهو مِن صفات الله، ومعناه: الذي يقهر العباد على ما أراد. (وَالْمَلَكُوتِ): مِن الملك، (ذِي َالْمَلَكُوتِ): صاحب ملاك كل شيء، وصيغة الفعلوت للمبالغة. (وَالْكِبْرِيَاءِ): أي سبحان ذي الكبرياء، أي العظمة والملك. ولا يوصف بهذا إلا الله -سبحانه وتعالى-.

- ذكر: (سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي)، قالت عائشة -رضي الله عنها-: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: (سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي)، يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ. (متفق عليه)

(سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ): أي وبحمدك سبحتك، ومعناه بتوفيقك لي سبحتك لا بحولي وقوتي، أو بسبب أنك موصوف بصفات الكمال والجلال سبحك المسبحون.

فضل السجود وإطالته بالليل:

ومما ينبغي الحرص عليه في مجاهدة النفس قيام الليل، وإطالة القيام والسجود فيه، كما كان يفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة -رضي الله عنهم- في عهد النبوة، والسلف الصالح مِن العلماء والعباد مِن بعدهم، قال -تعالى- في شأن المتقين: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ . وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذاريات:17-18)، وقال -تعالى-: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) (السجدة:16)، وقال -تعالى-: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) (المزمل:20).

وعن عائشة -رضي الله عنها-: "أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ" (متفق عليه)، وعن أنس -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ لاَ تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ، وَلاَ نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ" (رواه البخاري).

قال الشيخ ابن العثيمين -رحمه الله- في شرح رياض الصالحين للنووي ما مختصره أن: "فيه دليل على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أحيانًا يديم العمل الصالح حتى لا تراه إلا على هذا العمل، فكان لا تشاء تراه قائمًا إلا رأيته، ولا نائمًا إلا رأيته، وكذلك في الصوم، يعني أنه -عليه الصلاة والسلام- يتبع ما هو الأفضل والأرضى لله، وما هو أصلح و أنفع لبدنه؛ لأن الإنسان له حق على نفسه".

وعن عائشة -رضي الله عنها-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صَلاَتَهُ -تَعْنِي بِاللَّيْلِ- فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ!" (رواه البخاري).

وعنها قالت: "مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ، وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا" (متفق عليه).

قال الشيخ العثيمين في شرحه: "وقولها -رضي الله عنها-: (يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ) قد ظن بعض الناس أنها أربع مجموعة بسلامٍ واحدٍ، وهذا خطأ؛ لأنه قد جاء مفصلًا مبينًا أنها أربع ركعات يسلِّم مِن كل ركعتين، وأربع يسلم مِن كل ركعتين، وثلاث ركعات، فيكون قولها: (يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي... ) فيه دليل على أنه إذا صلى الأربع بسلامين استراح قليلًا؛ لقولها: (ثُمَّ يُصَلِّي)، و(ثُمَّ) للترتيب في المهلة، ثم يصلي الأربع على ركعتين، ثم يسلم. وأنا أشير في هذه المسألة إلى أنه لا ينبغي للإنسان أن يتعجل في فهم النصوص، بل يجمع شواردها حتى يضم بعضها إلى بعض ليتبين له الأمر".

وعن حذيفة -رضي الله عنها- قال: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ"، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَقَالَ: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى"، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ" (رواه مسلم).

قال العثيمين في شرحه: "ولكن لو قال قائل: هل الأفضل في الصلاة أن أطيل القيام أو أن أطيل السجود والركوع؟ قلنا: انظر ما هو أصلح لقلبك، قد يكون الإنسان في حال السجود أخشع وأحضر قلبًا، وقد يكون في حال القيام يقرأ القرآن ويتدبر القرآن، ويحصل له لطائف مِن كتاب الله -عز وجل- ما لا يحصل في حال السجود، ولكن الأفضل أن يجعل صلاته متناسبة، إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود، وإذا قصَّر القيام قصر الركوع والسجود، حتى تكون متناسبة كصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والله أعلم".

وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قال: (أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا) (متفق عليه).

قال العثيمين -رحمه الله-: "ولكن مع هذا إذا قام الإنسان في أي ساعة مِن الليل فإنه يرجى له أن ينال الثواب، وهذا الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الأحب إلى الله والأفضل، لكن يكفي أن تقوم الثلث الأخير أو الثلث الأوسط أو النصف الأول، حسب ما تيسر لك".