الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 03 يونيو 2018 - 19 رمضان 1439هـ

(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (1)

كتبه/ رضا الخطيب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلا يشكُ عاقل فيما آل إليه حالُ أُمتنا؛ فقد ذلَّتْ بعد عزٍّ، وضَعفَتْ بعد قوة، وافْتُقِرتْ بعد غِنَى!

وإن مِن أعظم أسباب هذا التَردِّي: الفهم الخاطئ للتعامل مع القرآن، مع كلام الله، وبالتالي لم تنتفع الأمة به الانتفاع الأمثل، ولم تهتدِ به كمحلٍ للهداية (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء:9).

لقد انصب اهتمام الغالبية مِن المسلمين على الناحية الشكلية للقرآن، ولم يواكب ذلك اهتمام بتدبره والتأثر به، والاغتراف مِن معينه الإيماني الذي يتفجر مِن كل آيةٍ مِن آياته، لتستمر الأمةُ في ضعفها وعجزها عن النهوض مِن كَبوَتِها، وكيف لا وقد هُجر أهم وأعظم مصدر للإمداد الإيماني؟!

ومما يزيد الأمر صعوبة أن الكثيرين لا يعترفون بذلك، بل يعتبرون أن الاهتمام بالقرآن يعني الإكثار مِن قراءته بفهمٍ أو بدون فهمٍ! ويعني كذلك تخريج أكبر قدرٍ مِن حُفَّاظ ألفاظه في أقل وقت ممكن؛ فازداد القرآن يُتمًا، وأصبح حاضرًا وغائبًا، موجودًا ومهجورًا!

صار حاضرًا بلفظه على ألسنة الُقَّراء والحفاظ، لكنه غائب بروحه وأنواره عن القلوب، وأثره الإيجابي في السلوك.

صار موجودا بشكله مِن خلال المطابع والإذاعات، والمدارس والكليات والمسابقات، لكنه مهجور في حقيقته وتأثيره على القلوب، وتغييره للأخلاق والنفوس والسلوك, وذلك علي مستوى الأفراد والأمم والجماعات.

فإن قلنا: هلموا إلى القرآن ننتفع به.

قيل: وماذا علينا أن نفعل مع القرآن أكثر مما نفعل، فأغلب بيوت المسلمين -إن لم تكن كلها- تحتوي على نسخة أو عدة نسخ مِن المصحف، والكثير مِن الأُسر تجد فيها مَن يحفظ قدرًا مِن القرآن، والإذاعات التي تبث آياته ليل نهار في ازدياد مستمر؟!

ونحن بلا شك لا نقلل أبدًا مِن كل هذه الأمور.

ومما يلفت الانتباه أنه -صلى الله عليه وسلم- قد اشتكانا لله: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان:30).

ولو تأملنا هذه الشكوى لوجدنا أمرًا عجيبًا: فلو كانت الآية لم تتضمن كلمة (اتَّخَذُوا) أي كانت بمعنى: يا رب إن قومي هجروا القرآن لكان المراد بها أناسًا أبعدوا القرآن تمامًا عن حياتهم، فلا تجد فيها أي مساحة لقراءته أو سماعه أو إذاعته، لكن وجود كلمة (اتَّخَذُوا) مع كلمة (مَهْجُورًا) أعطت لمفهوم الهجر بُعدًا آخر، ودلت على أن الشكوى تخص أناسًا تعاملوا مع القرآن؛ قراءةً وحفظًا، وبذلوا فيه مجهودا؛ فكلمة (اتَّخَذُوا) تدل على ذلك، إلا أنهم في نفس الوقت -رغم هذا المجهود- قد هجروا القرآن، وذلك حين اهتموا بشكله ولفظه، وهجروا أهم جانبٍ فيه ألا وهو تأثيره المتفرد على القلوب، وسلطانه على النفوس لِيُحَوِلَ ما فيها مِن ظلمات الهوى إلى نور الإيمان (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:15-16).

وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ) (رواه مسلم)، فما بالُنا وقد وُضعنا وذَلَلْنا على هذا النحو وإلى هذا الحد رغم اهتمامنا بالقرآن تلاوةً وحفظًا؟!  

إن نقطة البداية الصحيحة في طريق الانتفاع بالقرآن هي زيادة الإيمان، والثقة فيه كمصدرٍ متفرد للهداية والتغيير.

كيف ربي النبي أصحابه على الانتفاع بالقرآن، وكيف رسَّخ في نفوسهم هذه المعاني؟

تعظيم القرآن:

لقد تربى هذا الجيل الفريد على تعظيم القرآن، وأنه كلام الله؛ حينئذٍ تعلقت قلوبُهم به وتعايشوا معه، وكان أثره يزداد ويزداد فيهم كلما طالت فترات مكثهم معه، وكيف لا وما مِن لقاءٍ يتم بيْن القلب والقرآن إلا والإيمان يزداد، والنور يتوهج في قلوبهم، والطاقة تتولد عندهم، والدافع للاستقامة يقوى؟!

مِن هنا ندرك كيف وصل هذا الجيل الفريد لهذا المستوى الإيماني غير المسبوق على مستوى البشر العاديين؛ ذلك الإيمان الذي ظهرت آثاره العظيمة في كل الاتجاهات والأوقات، فمع أن الصحابة كانوا يضحكون ويلعبون، ويمارسون حياتهم بصورةٍ متوازنة؛ إلا أن الإيمان في قلوبهم - كان كأمثال الجبال!

وللحديث بقية -إن شاء الله-.