الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 29 أبريل 2018 - 13 شعبان 1439هـ

حكيم أرطغرل (ابن عربي) في ميزان القرآن والسُّنة (1)

(ابن عربي)... الروافد التي صاغتْ فلسفته، ومصادر تلقي الدين عنده

كتبه/ مصطفى إبراهيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ 

فتكمن أهمية وخطورة المسلسلات التاريخية والتي تتعرض لحقبةٍ زمنيةٍ معينةٍ، في كونها تمثِّل في أذهان المشاهدين صورة ذهنية حول تلك الحقبة، بل وتكون تلك الصورة الذهنية عند المشاهد أسرع استحضارًا مما لو قرأ عنها في كتب التاريخ والسير؛ لذا وجب التدقيق والتنبيه على تلك الأحداث التي ترسخ في أذهان المشاهدين مع تتابع الحلقات، حتى تصبح مع مرور الوقت كالحقائق التاريخية المُسلَّمة التي لا تقبل النقاش أو الجدال!

ويزداد الأمر خطورة إذا كان ارتباط تلك الأحداث ببعض الشخصيات الدينية؛ لاسيما إذا كانت شخصيات قد حذر منها علماء الإسلام قديمًا وحديثًا، فتقوم تلك المسلسلات التاريخية -مِن خلال سيناريوهات محبوكة متقنة- بتحسين الوجه القبيح لتلك الشخصيات، وعرضها في صورة الحكماء أو الزعماء الروحيين أو الملهمين للأمة؛ مما يكون له بالغ الأثر على عوام المسلمين في تقبل ضلالات وخرافات وبدع تلك الشخصيات في المستقبل؛ لأن الصورة الذهنية التي خلَّفتها تلك المسلسلات خاطئة ومجانبة للصواب، ولحقيقة حال تلك الشخصيات، بل ويستغل مروجو تلك الأفكار والمسلسلات جهل البعض بحقيقة تلك الشخصيات؛ لإيقاع المشاهد -دون أن يشعر- فريسة سهلة لتلك المغالطات الفكرية الخطيرة والمنحرفة عن منهج الإسلام الوسطي الصحيح.

ولقد عانت الأمة مِن تلك المغالطات التاريخية والأدبية -والعلمية أحيانًا- جراء تلك المسلسلات التي تعرض حقبًا تاريخية مرَّتْ بها أمتنا الإسلامية، عرضًا مغلوطًا لا يعبِّر عن الحقيقة.

إلا أن أخطر وأشهر تلك الشخصيات التي تناولتها المسلسلات التاريخية بالمغالطة: ما تم تناوله في المسلسل التركي المشهور: "قيامة أرطغرل" مِن عرض لشخصية "ابن عربي"؛ تلك الشخصية الصوفية الفلسفية الغالية، التي صورها المسلسل بصورةٍ مخالفةٍ لحقيقة الحال؛ لذا وجب التنبيه والنصح للمسلمين حول حقيقة منهج "ابن عربي"، وبيان حقيقة ما كان يدعو إليه في كتبه ومؤلفاته، وذلك مِن خلال عدة مقالات سنتناول مِن خلالها -إن شاء الله- بيان حقيقته عن طريق عرضٍ علميٍ وصفيٍ منصف لعقيدته وفكره، نلتزم فيها -إن شاء الله- بقواعد النقد العلمي الصحيح، ولن نذكر فيها معلومة إلا مِن خلال كتبه ومؤلفاته؛ لاسيما كتابي: (الفتوحات المكيّة)، و(فصوص الحكم)، وهما الكتابان اللذان لا يختلف اثنان في نسبتهما إليه.

المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها "ابن عربي":

ينتمي "ابن عربي" إلى المدرسة الصوفية الفلسفية الغالية، وقد كانت أفكاره وفلسفته وليدة البيئة التي نشأ فيها وتكوّن فيها وعيه الأول، حيث ولد ابن عربي بالأندلس، وعاش في الفترة مِن (560هـ وحتى 638هـ)، تلك المرحلة التي تأثر فيها بالثقافات والفلسفات الأخرى والديانات المختلفة، وبالتالي فقد تأثر ابن عربي بكل هذه التيارات والأجواء التي كانت موجودة في عصره؛ لذلك تعتبر آراؤه وأفكاره وفلسفته الفكرية مزيجًا مِن عدة ثقافاتٍ قديمةٍ ودياناتٍ وثنيةٍ، كما سيأتي بيانه بالتفصيل.

الروافد التي استمد منها "ابن عربي" فكره ومنهجه:

من الطبيعي أن نجد أن أول العوامل المؤثرة في سيرة كل عالم أو مصلح: القرآن ثم السُّنة ثم أقوال الصحابة -رضي الله عنهم-، لكن الحال مع ابن عربي يختلف عن المعهود!

فإليك أيها القاري الكريم المصادر التي استمد منها ابن عربي فكره ومنهجه:

أولاً: التراث الفارسي والهندي الوثني القديم، فإن عددًا كبيرًا مِن الأفكار التي دعا إليها  موروثة عِن التراث الهندي الوثني القديم (وقد ذكر ذلك الدكتور محمد إبراهيم الفيومي، في كتابه: الشيخ الأكبر ابن عربي صاحب الفتوحات المكية، ص:26).

ثانيًا: الفلسفة الأفلاطونية القديمة: فإن أول خاصية تظهر لمَن قرأ في كتبه هي: الأثر الأفلاطوني العميق المتغلغل في كل مذهبه، وبخاصة في تصوفه (انظر كتاب: ابن عربي حياته ومذهبه -كتاب مترجم-، آسين بلاثيوس، ص:260)؛ لذا فقد سمَّاه بعض الباحثين المتخصصين في التصوف: (ابن أفلاطون)؛ نظرًا لتأثره الشديد بالفلسفة الأفلاطونية التي أثرت على عقيدته! (انظر كتاب: الشيخ الأكبر ابن عربي، للدكتور الفيومي، ص:28).

ثالثًا: تأثره الشديد بالديانة النصرانية المحرّفة: وتقارب ابن عربي الشديد مع العقيدة النصرانية المحرّفة -القائلة بتجسد الإله في البشر، وحلوله فيهم-؛ هو بسبب التأثير الواسع الذي أحدثته الرهبانية في التصوف (انظر: ابن عربي حياته ومذهبه، آسين بلاثيوس، ص:257)، بل لقد صرّح بأن التثليث النصراني هو عين التوحيد! (كما في كتابه: الفتوحات المكية 4/ 370)، وسيأتي في مقالاتٍ قادمةٍ مزيد بيان لذلك -إن شاء الله-، بل لقد قال الأستاذ أبو العلا عفيفي -وهو مِن أبرز المهتمين بتحقيق ونشر كتب ابن عربي-: "تلعب فكرة التثليث دورًا هامًّا جدًّا في فلسفة ابن عربي، وغريب حقًّا أن يكون لها هذا الشأن في تفكير صوفي مسلم!" (انظر المعجم الصوفي، سعاد الحكيم، ص:248-249).

رابعًا: تأثره بالشيعة: فقد ذكر ابن خلدون -رحمه الله- أن ابن عربي قد تأثر بعقيدة الشيعة الرافضة في حلول الله بالبشر وتأليه الأئمة؛ فقال -رحمه الله- عن ذلك: "فأشرب كل واحد مِن الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم، وتشابهت عقائدهم" (نقلاً عن كتاب: المقدمة، ابن خلدون ص:584).

خامسًا: تأثره بالفلسفة الهرمسية: (وهي فلسفة قديمة تعتمد على الفلك والسحر والتنجيم، والأساطير اليونانية)، وعمومًا فقد تجمعت العقائد الهرمسية في المعتقدات الصوفية بواسطة ابن عربي، وهذه ظاهرة في كتاباته! (نقلاً عن: نظرية المعرفة الإشراقية وأثرها في النظرة إلى النبوة، د. إبراهيم هلال، ص16).

سادسًا: الديانة البوذية: فعقيدة وحدة الوجود عند ابن عربي -وسيأتي بيانها وشرحها- تشاكل عقيدة (النرفانا) عند البوذيين (نقلًا عن كتاب: ظهر الإسلام، د. أحمد أمين 2/ 155).

إذن أيها القاري الكريم هذه بعض الروافد الفكرية التي استقى منها ابن عربي عقيدته! وأشبع بها كتبه وأفكاره، وقد ولّدت تلك الروافد عقائد هي أبعد ما تكون عن القرآن والسُّنة! فتصوف ابن عربي ليس زهدًا ولا تقشفًا، ولكنه اتجاه عقلي فلسفي خاص يرمي به إلى إثبات شخصية الإنسان في الوجود الإلهي -كما سيأتي بيانه في مقالات قادمة إن شاء الله-.

مصادر تلقي الدين والشريعة عند "ابن عربي":

مِن المعلوم لدى كل مسلم ومسلمة أن مصادر تلقي الشريعة في الإسلام هي:

أولاً: القرآن الكريم: كلام الله -سبحانه وتعالى-.

ثانيًا: أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثالثًا: إجماع أهل العلم.

رابعًا: القياس الصحيح المكتمل الشروط والأركان.         

فهذه هي المصادر الأصلية التي نعرفها جميعًا، ويرجع إليها المسلمون في معرفة دينهم، وهذا محل اتفاق وقبول بيْن جميع الأمة الإسلامية -ولله الحمد-.

والسؤال الآن: ما هي مصادر تلقي الدين عند ابن عربي؟!

لا شك عندنا جميعًا أن وحي السماء إنما ينزل على الأنبياء والمرسلين، ثم يبلغه الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- إلى أقوامهم وأممهم، قال الله -تعالى-: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (الشعراء:193-194)، ولكن ابن عربي كان له رأي آخر!

المصدر الأول عند ابن عربي: أنه يمكن للإنسان إذا كان مِن الأولياء الصالحين أن يتلقى عن الله -تعالى- مباشرة بلا حاجةٍ للأنبياء والرسل! فيقول ابن عربي في أحد أبواب كتابه المشهور (فصوص الحكم): "وأنا إن شاء الله أسرد في هذا الباب على قدر ما يقع به الأمر الإلهي في خاطري، فكان هذا أول ما شوفهت به من هذا الباب" (انظر كتاب "فصوص الحكم"، ابن عربي ص58).

ويقول أيضًا: "فنحن ما نعتمد في كل ما نذكره إلا على ما يُلقي الله عندنا مِن ذلك، لا على ما تحتمله الألفاظ مِن الوجوه" (الفتوحات المكية، ابن عربي 1/136)، يعني: لا يعتمد على ألفاظ الشرع، بل يعتمد على ما يوحيه الله إليه!

بل يزعم -والعياذ بالله- أن رب العالمين -سبحانه- يتمثل له فيأخذ عنه علمًا ليس في الكتب؛ فيقول: "ونحن قد أخذنا عن مثل هذه الصورة أمورًا كثيرة مِن الأحكام الشرعية، لم نكن نعرفها مِن جهة العلماء ولا الكتب" (الفتوحات المكية، ابن عربي 3/70).

فالرجل في هذه النقولات وغيرها يدّعي أنه ينقل عن الله -تعالى- مباشرة بلا واسطة! بل يدّعي أنه تلقى عن الله -تعالى- عن طريق التكليم المباشر! بل إن المفاجأة الكبرى أنه زعم أن تلقيه عن الله -سبحانه- أفضل وأعظم وأكمل مِن تلقي الأنبياء والرسل عن الله! فيزعم أن الرسل يتلقون عن الله بواسطة جبريل -ويسميه: الخيال النفساني!-، أما هو فيتلقى مباشرة مِن اللوح المحفوظ -ويسميه: المعدن العقلي المحض الذي يأخذ منه جبريل!-.

المصدر الثاني: أنه كان ينزل عليه الوحي كما كان ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيقول في كتابه (الفتوحات المكية): "فوالله ما كتبتُ منه -يعني: كتابه الفتوحات المكية- حرفًا إلّا عن إملاء رحماني، وإلقاء ربّاني، أو نفث في روع كياني؛ هذا جملة الأمر، مع كوننا لسنا برسل مشرعين، ولا أنبياء مكلفين" (الفتوحات المكية، ابن عربي 1/136)، ثم أنشد قائلًا:

"الله أنـشـأ مِن طــي وخـــولان                      جـسمـي فـعدلني خلقا وسـواني

وأنشأ الحق لي روحا مـطهــرة                      فـليـس بنيان غيري مثل بنياني

إني لأعرف روحًا كان ينزل بي                      من فوق سبع سماوات بفـرقان"

فانظر أيها القارئ الكريم إلى هذه الجرأة، وهذا الادعاء الباطل، الذي -للأسف- يصادِم عقيدة مِن عقائد الإسلام، حيث ذكر أن الروح الأمين وهو جبريل -عليه السلام- ينزل عليه بوحيٍ السماء، بل هذا مصادم لقول الله -تعالى-: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) (الحج:75)، قال ابن كثير في تفسيره: "يخبر -تعالى- أنه يختار مِن الملائكة رسلًا فيما يشاء مِن شرعه وقدره، ومِن الناس لإبلاغ رسالاته، كما قال: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام:124)" (انظر تفسير ابن كثير 5/ 454).

ما مدى خطورة قول ابن عربي في مسألة التلقي عن الله -تعالى- مباشرة؟!

هذا القول الباطل الخطير يفتح الباب على مصراعيه للإلحاد والانسلاخ مِن الدين؛ وذلك مِن خلال الزعم أن هناك مصادر أخرى لتلقي الدين غير طريق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد اتفقتْ كلمة الصحابة والتابعين ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أن هذه الدعوى تقود الإنسان إلى الكفر والإلحاد والاستغناء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والشرع المنزل! ولو كان الأمر كذلك فما الفائدة إذن مِن قولنا: "وأشهد أن محمدًا رسول الله"؟! فإنه مما لا شك فيه أن الوحي قد انقطع بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

ومِن خطورة أقوال ابن عربي في هذه المسألة أن هذا أيضًا يفتح الباب للزيادة في الدين؛ فإن مَن يدعي نزول الوحي عليه سيأمر الناس بلا شك بطاعة أوامره بغير نقاشٍ ولا جدالٍ، وهذا باطل بلا شك؛ فالأنبياء فقط هم مَن تجب طاعتهم أما مَن سوى الأنبياء فيجب عرض أقوالهم أولًا على الكتاب والسُّنة، فإن كانت موافقة لشرع الله قُبلت، وإن كانت مخالفة لشرع الله لا تقبل.

المصدر الثالث: إدعاء ابن عربي رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة، وتلقي الأحاديث عنه!

مِن المزاعم الغريبة العجيبة التي يزعمها ابن عربي أنه يرى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويتكلم معه حال اليقظة -وليس في المنام-!، بل يزعم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سلّمه بعض الصحائف المكتوبة! ثم قام بنشرها للناس بعد ذلك على أنها مما تلقاه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-! وهذا مِن أعجب العجاب، وأبطل الباطل، وأمحل المحال، ويخالف عقلاء العالم!

فيقول مثلًا: "فإني رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مبشرة أريتها في العشر الأخر مِن محرم سنة سبع وعشرين وستمائة بمحروسة دمشق، وبيده -صلى الله عليه وسلم- كتاب، فقال لي: "هذا كتاب فصوص الحكم خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به"، فقلتُ: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أُمرنا، فحققت الأمنية وأخلصت النية وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حده لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِن غير زيادة ولا نقصان!" (فصوص الحكم، ابن عربي ص47).

ما مدى خطورة هذا المصدر عند ابن عربي؟!

إن زعم ابن عربي أنه يتلقى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤدي إلى إلغاء الفائدة مِن علم رواية الأحاديث؟! فما الفائدة إذن مِن علم مصطلح الحديث، ومعرفة أحوال الرواة مِن حيث التوثيق والتضعيف؟!

هذا العلم الشريف الذي يتعرف به العلماء على الصحيح والضعيف مِن أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ هذا العلم الشريف الذي تميزت به الأمة الإسلامية عن سائر الأمم، هذا العلم الذي لم تعرف البشرية مثله في نسبة وتوثيق قول إلى قائله، هذا العلم -أيها القاري الكريم- لا يعتبر شيئًا عند ابن عربي! فهو لا يعتمد عليه أبدًا ولا على قواعده التي تعب علماء المسلمين في وضعها وصياغتها للتمييز بيْن الصحيح والضعيف! والسبب في ذلك أنه يصرّح بأنه يأخذ الأحاديث مشافهة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فما فائدة الأسانيد عنده إذن؟! وما الداعي عنده لأحاديثنا ورواياتنا وحدثنا وأخبرنا ؟! وما الطائل مِن رواه فلان عن فلان عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؟!

فانظر أيها القارئ الكريم إلى قوله أيضًا: "ومَن كان مِن الصالحين ممَن كان له حديث مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في كشفه، وصحبه في عالم الكشف والشهود، وأخذ عنه: حُشر معه يوم القيامة، وكان مِن الصحابة الذين صحبوه في أشرف المواطن، ولا يلحق بهذه الدرجة صاحب النوم ولا يسمى صاحبًا حتى يراه وهو مستيقظ، ويصحح له مِن الأحاديث ما وقع فيه الطعن مِن جهة طريقها!" (الفتوحات المكية، ابن عربي 3 /50).

فيظهر مِن هذا النقل أن "ابن عربي" أثبت أمورًا عجيبةً، ليس عليها دليل مِن كتاب الله، ولا مِن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي:

أولًا: إثبات أن مِن أولياء الله الصالحين مَن يكون له شهود ومكاشفة للنبي -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة!

ثانيًا: جعل مقابلته للنبي -صلى الله عليه وسلم- بابًا مِن أبواب العلم بالصحيح والضعيف مِن أحاديثه -صلى الله عليه وسلم-.

ثالثًا: أنه أثبت أعلى درجات الصحبة لنفسه ولمَن لحق بهذه الدرجة مِن المكاشفة والرؤية له -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة، حيث قال: "وكان مِن الصحابة الذين صحبوه في أشرف المواطن".

رابعًا: أن قوله: "يصحح له الأحاديث ما وقع فيه الطعن مِن جهة طريقها"، يعني يصحح له الأحاديث الضعيفة التي لا تثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-!

وقد يتساءل سائل: ما هو حقيقة ما يسمعه ويراه ابن عربي مما يدعي أنه خطاب مِن الله -تعالى-، أو خطاب مِن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو خطاب مِن جبريل -عليه السلام-؟!

الجواب: إن هذا لا شك مِن خطاب الشيطان له؛ فإن الله -تعالى- يقول: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (الأنعام:121).

ومعنى هذه الآية: أن الشياطين يوسوسون إلى أوليائهم مِن أهل البدع والمعاصي لكي يشرِّعون لكم التشريعات التي تضاهي شريعة الله -تعالى-، وإن أطعتموهم في هذه التشريعات فإنكم ستقعون في الشرك بالله؛ لأن طاعتهم مع طاعة الله تعتبر تشريك لله -تعالى- في طاعته وتشريعه (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (الشورى:21).

وهذه ليستْ إلّا أحوالًا شيطانية يزعمها غلاة الصوفية؛ حيث يزعمون أنهم يقابلون النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد موته، فيصبحون مِن الصحابة! والحقيقة أنهم يرون الشياطين ليس إلا؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يُرى بعد وفاته في اليقظة، لا هو ولا أحد غيره مِن الموتى.

وهذا التمثيل الشيطاني قد حصل للأمم قبلنا، كما هو مشهور من قصة بني إسرائيل عند عبادتهم للعجل، قال -تعالى-: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ) (الأعراف:148)، يعني: عجلًا مِن الحلي والمجوهرات صار له صوت عندما عبدوه، وهذا الصوت مِن تخييل الشيطان لهم، وهذا نظير ما حصل لابن عربي مِن تخييل الشياطين.

إذن، تناولنا في هذا المقال ثلاثة مصادر للتلقي عند ابن عربي، وهي:

1- التلقي عن الله -تعالى- مباشرة ومشافهة!

2- الأخذ عن جبريل -عليه السلام- مباشرة!

3- الأخذ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مباشرة!

وثمة مصادر أخرى للتلقي عند ابن عربي: كالرؤى المنامية، والإلهامات، وهذه سوف نتحدث عنها في المقالة القادمة -بإذن الله-، كما سنوضح منزلة العقل عند ابن عربي، وكيف أنه يلغي إعمال العقل تمامًا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.