الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 11 مارس 2018 - 23 جمادى الثانية 1439هـ

مِن مفاتيح الرزق (1)

كتبه/ محمد سرحان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن مِن أكثر ما يَشغل بال الإنسان قضية الرزق، خاصة أوقات الشدة والأزمات الاقتصادية، والله -عز وجل- خلق الإنسان لعبادته وطاعته، وضمِن له رزقه وطمأنه عليه؛ ليقوم بوظيفته المكلف بها، قال الله -تعالى-: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) (هود:6).

والدابة: اسم لكل حيوان يدبّ على الأرض "أي هو متكفل بأرزاق المخلوقات مِن سائر دواب الأرض؛ صغيرها وكبيرها، بحريها، وبريها، وإنما جيء بـ(على) اعتبارًا لسبق الوعد به، وتحقيقًا لوصوله إليها ألبتة بطريق التكفل الشبيه بالإيجاب" (تفسير القاسمي).

وقال -تعالى-: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت:60).

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لمّا أمرهم -أي الصحابة- رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بالخروج إِلى المدينة، قالوا: يا رسول الله، نخرُج إِلى المدينة وليس لنا بها عقار ولا مال؟ فمن يؤوينا ويطعمنا؟ فنزلت هذه الآية" (زاد المسير في علم التفسير).

(وَكَأَيِّنْ) أي: وكم (مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) أي: لا تطيق أن تحمله؛ لضعفها عن حمله، (اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) أي: يقيّض لها رزقها على ضعفها، ويرزقكم مع قوتكم واجتهادكم، فهو الميسّر والمسهّل لكل مخلوق مِن رزقه ما يصلحه؛ فلا يختص رزقه ببقعةٍ دون أخرى، بل خيره عام، وفضله شامل لخلقه، حيث كانوا وأنّى وجدوا.

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ الرُّوحَ الْأَمِينَ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا, فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ, وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللهِ, فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ مَا عِنْدَ اللهِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ هَرَبَ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَهْرُبُ مِنَ الْمَوْتِ لَأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ) (رواه أبو نعيم في الحلية، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ فَرَغَ إِلَى كُلِّ عَبْدٍ مِنْ خَلْقِهِ مِنْ خَمْسٍ: مِنْ أَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَمَضْجَعِهِ وَأَثَرِهِ وَرِزْقِهِ) (أخرجه أحمد، وصححه الأرنؤوط في تحقيق المسند).

والله -عز وجل- قسَّم أنواع الأرزاق بحكمةٍ، وقد يتمنى الإنسان أشياء قد تكون مهلكته، قال الله -تعالى-: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216)، وقد يمنع الله عن المؤمن ما يتمناه أحيانًا -لا لهوانه عليه-، ولكن رحمة به، قال -تعالى-: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) (النساء:32) "وفي معنى هذا التمني قولان: أحدهما: أن يتمنّى الرجل مال غيره، قاله ابن عباس، وعطاء. والثاني: أن يتمنى النساء أن يكن رجالًا" (زاد المسير في علم التفسير 1/ 399).

وفي قصة قارون عبرة وعظة، فلما خرج في زينته: (قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (القصص:79)، فلما خسف الله به الأرض: (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) (القصص:82).

فارضَ بما قسم الله لك مِن أنواع الأرزاق؛ فليس المال فقط هو الرزق، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ) (رواه مسلم).

فما على الإنسان إلا أن يلتمس أسباب الرزق جهده، ولا يقعد عن طلبه؛ فإن "السماء لا تمطر ذهبًا، ولا فضة"، كما قال عمر -رضي الله عنه-، والله -سبحانه- يمتن على عباده بالرزق، قال -تعالى-: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك:15)، وتأمل -لتكون على يقين-: (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) أي: ليس مِن مشيكم، ولا مِن كسبكم، وإنما بما يتفضل عليكم مِن رزقه.

يتبع إن شاء الله -تعالى-.

وصلِّ اللهم على محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.