الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الجمعة 05 يناير 2018 - 18 ربيع الثاني 1439هـ

لماذا تَجَرَّءُوا عَلَينا؟ (3)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن مِن أعظم أسباب جرْأَة الأعداء علينا: الضعفُ الشديدُ الذي أصابَ "العمل الإسلامي" بجملته.

والذي مِن أعظم أسبابه: التفَرُّق والتَعَصُّب المذموم، الذي تفاقم بيْن الاتجاهات المختلفة، والذي ظهر جَلِيًّا بعد ثورات "الربيع العربي"، وما ترتب عليها مِن الانقسامات التي وقعتْ في المجتمعات العربية، وفي فصائل العمل الإسلامي المختلفة في المنهج ابتداءً، وتضاعَفَ الأمر بالاختلاف في توصيف الواقع والتعامل معه، ثم تضاعفت أكثر بانتشار السلوكيات المَرَضِيّة في القلوب، وعلى الألسِنَة والكتابات!

ومنبع ذلك هو مِن "التَعَصُّب المذموم"، الذي سَمَّاهُ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دَعْوَى الجَاهِلِيَّة"، لما وقع بيْن المهاجرين والأنصار خصومةٌ؛ فتَنَادَى المهاجرون: يا للمهاجرين، وَتَنَادَى الأنصار: يا للأنصار؛ فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّة؛ دَعُوهَا، فإِنَّها مُنْتِنَة) (متفق عليه)، مع أن اسم "المهاجرين، والأنصار" مِن أشرف الأسماء، وهي مِن الأسماء التي سَمَّاهُم الله بها في كتابه، وَسَمَّاهُم بها الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سُنَّتِه؛ ومع ذلك حين صارت شِعَارًا يَنْتَصِرُ الناسُ له دون تَبَيُّنِ المُحِقِّ مِنَ المُبْطِل صارت "جَاهِلِيَّة"!

وإذا صار الناس يَتَحَزَّبُون إلى أوطانِهِم أو جماعاتِهِم أو أَعْرَاقِهِم القومية، أو لأسماءٍ -شريفةٍ أو غيرِ شريفةٍ-، أو لِعَالِمٍ مُعَيَّنٍ؛ فيَنْصُر المرءُ على ذلك، ويغضَبُ على ذلك، ويَتَغَاضَى عن المخالفات التي تصدر عن جَماعَتِه أو طَائِفَتِه، ويعظـِّم ما يَصْدُرُ مِن غيرِهم، ويعمل على المصالح المحدودة لطائفته دون النظر إلى مصالح باقي المسلمين "مع أنها مُتَلَازِمَةٌ"؛ فأوطانُنا يسقطُ بعضها تلو البَعْضِ إذا سَقَط بعضُها، فمَصالِحُها مُتَّحِدَة؛ ولذا لا بد مِن الحرص عليها جميعًا.

وكذلك طوائفُ المُسْلِمِين ومَذَاهِبُهم المُعْتَبَرَة، وجَمَاعاتُهم العَامِلَة مِن أَجْلِ إعلاءِ دينِ اللهِ على مذهب أَهْلِ السُنَّة؛ فمَن ينظر إلى أن المصلحة بالنسبة له هي مَصْلَحَةُ طائِفَتِه وجماعته التي ينتمي إليها؛ فهي نظرة غير سديدة، وميزانٌ غير صحيح!

ويزداد الأَمْرُ سُوءًا إذا رأى أن جماعتَه هي وحدَها "جماعة المسلمين" التي مَن فارَقَها فقد خلع رِبْقَة الإسلام مِن عُنُقِه!

وكم شَهِدْنا في الأحداث الماضية في بلادٍ مختلفةٍ مِن هذا النوع الذي تعتقده جماعات التكفير؛ فهي تعلن صراحة أن شرط الحكم للشخص بالإسلام أن يكون مُبَايِعًا لِزَعِيمِهَا وَقَائِدِهَا، وهناك جماعات تُطَبِّقُ ذلك رغم تصريحات المفكرين البارزين فيها أنهم جماعةٌ مِن المُسْلِمين؛ إلا أن تسليط سيف الاتهام الشديد لمن خَرَج عن الجماعة يَجْعَل المُعَامَلَةَ في الحقيقة مِن نوعِ ومِن جنسِ تَعَامُلِ جماعات التكفير! ثم صار التكفير صراحةً لِمَن خَالَفَهُم ولم يُوَافِقْهُم على طريقَتِهِم في التعامل مع الأحداث!

وقد وَصَلَ الأَمْرُ إلى أمورٍ شديدةٍ مِن خلال التضليل والتكفير للمُخَالِفِ ثم استباحة دَمِه وعِرْضِه ومَالِه، حتى دُفِعَت الجماعات والأفراد إلى قَتل مَن يرونه خائنًا عَمِيلًا مُرْتَدًّا كَافِرًا مُنَافِقًا -في ظَنِّهِم-!

وانتشار القتل هو مِن الفتن التي حَذَّرَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منها بقوله: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ؟!) فَقِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: (الْهَرْجُ، الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَقُوم السَّاعَةُ حتى يُقْبَضَ العِلْمُ، وتَكثُر الزلازلُ، وَيَتَقَارَب الزمانُ، وتظهر الفِتَنُ، ويَكْثُر الهَرْجُ) (متفق عليه). و(الهَرْجُ): القتل.

وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَدِّثُنَا أَنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ. قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَال: (الْكَذِبُ وَالْقَتْلُ). قَالُوا: أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ الْآنَ؟! قَالَ: (إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْكُفَّارَ، وَلَكِنَّهُ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَيَقْتُلَ أَخَاهُ، وَيَقْتُلَ عَمَّهُ، وَيَقْتُلَ ابْنَ عَمِّهِ). قَالُوا: سُبْحَانَ اللهِ! ومَعَنَا عُقُولُنَا؟! قَالَ: (لَا. إِلَّا أَنَّهُ يَنْزِعُ عُقُولَ أَهْلِ ذَاكُم الزَّمَانِ حَتَّى يَحْسَبَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).

وتَأَمَّل في هذا الحديث أولًا: كيف جمع بيْن الكذب والقتل؟! فانتشار الشائعات الكاذِبَة وعدم التَثَبُّت مِن الأخبار، وبناء الأمور على الظَنِّ والشُّبْهَة، مِن أعظم أسباب انتشار القتل؛ فإذا أضيف إلى ذلك البِدْعَة: "كالتكفير، والتشَيُّع، وكل ما يؤدي إلى استباحة دم المسلم أو المُعَاهَد" - كان الأمرُ بالفِعْلِ فتنةً عظيمةً.

ثم تَأَمَّل ثانيًا: تَعَجُّبَ الصحابة أن تكون مَعَنَا عُقُولنا آنذاك؟! وهو يدل على أن تخريب المجتمعات بهذا الشكل حتى يَقتل الرجلُ جارَه، وأخاه، وعَمَّه وابْنَ عَمِّه، ينافي العقل؛ لأن مصالحَ الأهلِ والجيرانِ وأهلِ المَحِلَّةِ الواحدةِ والوطنِ الواحدِ مُتَشَابكةٌ "بل والأطان في زماننا"؛ لأن العالم أصبح كالقرية الصغيرة.

والأعداء يتمكنون ويتجرءون غاية الجرأة مع تَفَكُّكِ المجتمعات وانقسامها طائفيًّا، ولا شك أن مخططاتهم المُعْلَنَة -في "الفوضى الخَلَّاقة" في زعمهم!- والخَفِيَّة تهدف إلى التقسيم الطائفي للبلاد -التي هي أصلًا مُقسَّمة ثمرة المعاهدات الظالِمَة "سايكس بيكو" وغيرها-، وقد تعمَّدوا في هذه المعاهدات ترك بؤر الصراع على الحدود بيْن البلاد المختلفة، ووجود طوائف عِرْقِيَّةٍ ودينيةٍ متعددة، ظَلَّت مُتَعَايِشَةً لمئات السنين حتى مع اختلاف الدين والمذهب والقومية!

فالأقباط في مصر -مثلًا- لم يتعرض لهم أحدٌ -كطائفةٍ- منذ الفتح الإسلامي، وإلا لما بقوا أصلًا؛ فبقاؤهم دليلٌ على احترامِ دمائِهِم وأموالِهِم وأعراضِهِم مع بقائهم على دينِهِم، ومع ذلك ترى اليوم مَن ينفخ في نار التحارب الطائفي بقتلٍ هُنَا وتفجيرٍ هناك.

ونحن لا ننسى أن الاحتلال الإنجليزي لبلادِنا كان على خلفية حوادث طائفيةٍ، مثل ما يحدث مِن محاولاتِ التدخُّلِ الأمريكي، ومناقشة "الكونجرس" لاضطهاد الأقباط في مصر، وما هو مِن جنسِ هذه المزاعم الكاذبة الباطلة؛ فالواجب أن نعقِل أُمُورَنا ومَصَالِحَنا باستمرار "التعَايُشِ السِّلْمِيِّ"، ورعاية الحقوق بيننا، وعدم السماح بالتدمير للمجتمع بذلك.

والعراق مَثَلٌ ثانٍ عاش فيه "السُّنَّةُ، والشِّيْعَةُ" قرونًا طويلةً مع الاختلاف العقائدي والمذهبي، لكن لم تصل إلى بشاعة الحرب الطائفية التي يَشُنُّهَا "الشِّيْعَةُ" على "أَهْلِ السُنَّةِ" مثلما نرى في زمانِنَا؛ إلا ما كان أيام "التتار" الذين عاوَنَهُم "الرَّافِضَةُ" على قَتْلِ "أَهْلِ السُنَّةِ"! على خلفية أزماتٍ طائفية سبقتْ اجتياح "التتار" لبَغْدَاد.

وأمثلةٌ أخرى في سوريا واليمن، وكذلك ما يحدث بيْن "الأَكْرَادِ، والعَرَب".

ولا ينسى المسلمون أن مُحَرِّرَ "الأقصى" مِن الصليبيين، هو "صلاح الدين" -سلطان مصر والشام- الذي كان كُرْدِيًّا؛ للدلالة على مدى التسامح الذي كانت تعيشه المجتمعات أوقات انتصارها.

ولا يعني ذلك علاج هذا الأمر بتمييع العقائد، وتضييع الثوابت -كما يحاول البعض-؛ بل إعلاء قيمة "التعَايُش السِّلْمِيِّ" رعايةً لمصالح الجميع، ودَفْعًا لتسَلُّط الأعداء مِن خلال الحروب الطائفية.

وليس علاجُ أَمْرِ التعصب المذموم والحزبية المذمومة هو بإلغاء "العمل الجماعي"! فالتحَزُّب ينقسم إلى: "تَحَزُّبٍ مَذْمُومٍ، وتَحَزُّبٍ مَحْمُودٍ"؛ فالتَحَزُّبُ المَحْمُودُ هو ما كان تَعَاوُنًا على البِرِّ والتَّقْوَى، واجْتِمَاعًا على طاعة الله -عز وجل-، وقد قال الله -تعالى- في كتابه: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة:22).

ولذلك فإن الاجتماع على البِرِّ والتَّقْوَى والتعاوُن عليهما هو المحمود، وأما التَحَزُّب المَذْمُوم والعَصَبِيَّة المَذْمُومَة؛ فهو الاجتماع والتعاون على الإثم والعدوان، وكذلك الانتصار لطائفةٍ أو مَذْهَبٍ أو بَلَدٍ أو جَمَاعَةٍ دون نظرٍ إلى المُحِقِّ مِن المُبْطِل في النزاعات التي تقع فيما بينهم.

ولا يَحْرُم التسَمِّي بالأسماء المختلفة -كما يَدَّعِيه البعضُ زَاعِمًا أنه يُحَارِبُ التعصُّب!-؛ بل لم تزل الأسماء موجودة؛ أبقاها النبي -صلى الله عليه وسلم- كـ"المهاجرين - والأنصار".

وَكُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ على معنى حسنٍ ليس بديلًا عن اسم الإسلام -لا كما يدَّعي البعض أن كل الأسماء تكون بديلةً عن اسم الإسلام! فيرفض التسمي، وليس صحيحًا!-، بل تبقى الأسماء المشروعة التي تدل على المعاني المحمودة، ويُنهَى عن التعصب المذموم، والتعاون على الإثم والعدوان؛ فلا يصح أن يُقْتَل المريضُ لأنه مريضٌ! بل لابد من عِلَاجِه، ونمنعه مما يؤذيه ويَضُرُّه، ولا نمنعه مما يَجِبُ عليه شرعًا؛ فبقاءُ "العمل الجماعي" في التعاون على الدعوة إلى الله، ونشر العلم، وقضاء حاجات المسلمين، وإغاثة ملهوفهم، وتفريج كرباتهم - واجبٌ شرعيٌّ لا يمكن إهماله.

وضعف هذا "العمل الجماعي" داخل البلاد المسلمة مِن أعظم أسباب ضَعْفِهَا عُمُومًا؛ فالحكومات لا تَقْدِرُ على كل شيءٍ! وبعضُها لا يهتم بكثيرٍ مِن هذه الأمور -أو بِأَكْثَرِها!-؛ فوَجَبَ على المسلمين أن يتعاونوا فيما بينهم على ما أَمَرَهُم اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- به؛ ولا يحصل ذلك إلا بالرجوع إلى أهل العلم منهم، حتى يكون لِكِيانِهِم وطائفتهم أثرٌ في إصلاح الواقع الأليم الذي تتعرض له مجتمعات المسلمين. 

نسأل اللهَ أن يَحْفَظَ المسلمين وبِلادَهم من كُلِّ سُوءٍ.