الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 29 نوفمبر 2017 - 11 ربيع الأول 1439هـ

وقفات مع آيات (2) (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

مقدمة:

- التذكير بفضل مدارسة وتدبر آيات القرآن: قال الله -تعالى-: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص:29).

- ذكر آية موعظة اليوم: قوله -تعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران:103)، والإشارة إلى حاجة المسلمين الماسة في هذه الفترة العصيبة إلى تدبر هذه الآيات.

- المعنى الإجمالي للآية: قال المفسِّرون: "يا أيها المؤمنون تمسكوا بالكتاب والسُّنة، ولا ترتكبوا ما يوقعكم في التفرق، واذكروا إنعام الله عليكم حين كنتم أعداءً قبْل الإسلام تتقاتلون على أقل الأسباب, فجمع بيْن قلوبكم بالإسلام؛ فصرتم بفضله إخوانًا في الدين متراحمين متناصحين، وكنتم قبْل ذلك على دخول النار بكفركم؛ فنجاكم الله منها بالإسلام، وهداكم للإيمان، وكما بيَّن الله لكم هذا، بيَّن لكم ما يصلح أحوالكم في الدنيا والآخرة؛ لتهتدوا إلى طريق الرشاد، وتسلكوا سبيل الاستقامة".

- سبب نزول الآية: قال السيوطي -رحمه الله- في أسباب النزول عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كانت الأوس والخزرج في الجاهلية بينهم شر، فبينما همْ جلوس ذكروا ما بينهم حتى غضبوا، وقام بعضهم إلى بعض بالسلاح، فنزلتْ: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (آل عمران:101)، والآيتان بعدها" (الدر المنثور في التفسير بالمأثور).  

وذكر أيضًا عن زيد بن أسلم قال: "مرَّ شاس بن قيس وكان يهوديًّا على نفرٍ مِن الأوس والخزرج يتحدثون، فغاظه ما رأى مِن تآلفهم بعد العداوة؛ فأمر شابًا معه مِن يهود أن يجلس بينهم فيذكرهم يوم بعاث ففعل، فتنازعوا وتفاخروا حتى وثب رجلان مِن الأوس، وجبار بن صخر مِن الخزرج فتقاتلا، وغضب الفريقان وتواثبوا للقتال، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء حتى وعظهم وأصلح بينهم فسمعوا وأطاعوا؛ فأنزل الله في الأوس والخزرج: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) (آل عمران:100)، وفي شاس بن قيس: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا) (آل عمران:99).

وقفات مع الآيات:

الوقفة الأولى: الحذر مِن مكايد أعداء الإسلام للتفريق بيْن المسلمين:

- الشاهد مِن الآيات حول الآية قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) (آل عمران:100).

- نصحهم للمسلمين مِن باب نصح إبليس لآدم وذريته: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ . فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) (الأعراف:21-22)، وقال -تعالى-: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (الحشر:16).

- كيف ينصحون لنا وهم الذين يصرِّحون بالعداوة, فضلًا عن مؤامراتهم على المسلمين؟!: قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران:118)، وقال -تعالى-: (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة:64).

الوقفة الثانية: خطر الفرقة والاختلاف على المسلمين:

- الشاهد من الآيات: قوله -تعالى-: (وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران:103).

- الاختلاف والنزاع ضعف وضياع: قال الله -تعالى-: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال:46).

- الاجتماع قوة وبركة: قال -تعالى-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة:2).

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ) (أخرجه عبد الله بن أحمد في الزوائد، وحسنه الألباني).

- قصة مشهورة في بيان فضل الاجتماع ونبذ التفرق: "هي قصة الأب الذي كان له أولاد، وأراد أن يلقنهم درسًا في فضل الاجتماع، ويحذرهم مِن شرِّ الفرقة والاختلاف, فجاء بعددٍ مِن العصي على عدد أولاده، وأعطى كلَّ واحد منهم عصا، وقال: اكسر هذه العصا فكسرها، وهكذا كل واحد منهم, ثم جاء بنفس العدد مِن العصي وجمعها في حزمة واحدة ثم أعطاها لكل واحد منهم وطلب منه أن يكسرها فما استطاعوا, فعند ذلك أيقنوا جميعًا أنهم أقوياء إذا اجتمعوا, وضعفاء إذا تفرقوا!".

- أُخوة الإسلام قبْل أخوة الأقوام: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: (دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) (متفق عليه).  

- لا فرق بيْن مسلم عربي ومسلم أعجمي، ولا مسلم شامي ومسلم عراقي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

الوقفة الثالثة: حبل الله هو سبيل التوحد:

- الشاهد مِن الآيات: قوله -تعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران:103).

- حبل الله سبيل النجاة مِن الضلال، والضعف والتفرق: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الآخَرِ: كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ. وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال: (فإنَّه من يَعِشْ منكم بَعْدي فسَيَرى اختلافاً كثيراً، فعليكُم بسنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاءِ، المَهديِّينَ الرَّاشدينَ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

- لن يجتمع المسلمون والعرب إلا على شرع الله، وهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (نبذة عن حالة العرب قبْل الإسلام): "كان العالم يحكمه قوتان عظيمتان في أكثر أموره -إن لم تكن كلها-، وهما: الفرس والروم، وكانت كل دولة مِن الدولتين تخضع لها مِن ممالك العالم ما تخضع، حيث تقاسما العالم فيما بينهما, وأما العرب فلم يكن لهم ذكر مرفوع؛ فما كانوا إلا أتباعًا للفرس والروم، وربما قامت الحروب بينهم ولاءً لأسيادهم مِن الفرس والروم! فجاء الإسلام فوحَّدهم، وألَّف بيْن قلوبهم، وأعلى شأنهم حتى صاروا سادة الشعوب وملوك الأرض!".

قال الله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ . وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال:62-63).

فاللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحِّد صفهم، وألِّف بيْن قلوبهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم.