الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 17 سبتمبر 2017 - 26 ذو الحجة 1438هـ

"الحجّ"... ميلادٌ جديد

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: : (مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) (متفق عليه).

ولأن القلب لا بُدَّ له مِن هداية خاصة ببيت الله الحرام، في التوجه إليه في الصلاة، ثم بالاقتراب منه حتى يطوف به ويؤدي مَناسِكَه حوله؛ لأجل ذلك فرض الله -عز وجل- الحَجَّ على العباد ليكون رُكنًا خامسًا مِن أركان الإسلام، كما بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (رواه مسلم).

ولأن البيت فيه هداية ضرورية للإنسان، قال الله -عز وجل-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران:96-97).

والذي حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُق رجع مِن ذنوبه كيوم ولدته أمه؛ فهو يُولد مِن جديد!

يولد قلبه مِن رحم الشهوات، وظلمات الجهالات!

يولد مِن جديد؛ يتخَلَّصُ من أَسْرِ العادات، يتخلص من أَسْرِ الأهواء والرغبات الدنيوية.

يولد مِن جديد؛ ليتغير تَصَوُّرُه وفَهْمُه عن الحياة، يخرج من ظُلُمَات الظلم والجهل إلى نور الإيمان والعلم والعدل.

فتتغير تصوراته؛ فيَرَى ملكوت السماوات والأرض لله -سبحانه وتعالى، وحده لا شريك لك-، يشهد رُبوبِيَّتَه وقدرته وعِلْمَه ورَحمتَه، يشهد أنه الحَيُّ القَيّوم، لا إله إلا هو.

فيتغير بذلك تَغَيُّرًا عظيمًا هائلًا يكون به مِن الموقنين: (وَكَذَ?لِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام:75).

يتأمل هذا الذي وُلِد قلبُه، في أن الله -سبحانه وتعالى- هو الأَوَّل الذي ليس قَبْلَه شيء، وأن كل هذه المخلوقات سَبَقها عَدَمٌ بلا شك، ثم هم عَمَّا قليلٍ مُرْتَحِلون، يأتي مِن بعدهم أجيالٌ أخرى، وأجيالٌ وأجيال، حتى يرث الله الأرض ومَن عليها، فهو -عَزَّ وجَلَّ- أيضًا الآخِر الذي ليس بعده شيء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ . إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) (فاطر:15-17)، كُنّا نحن الخَلْق الجديد بعد أن رَحَل مَن سَبَقَنا، وعما قريب نرحل نحن أيضًا ويأتي غيرنا!

فمَن يشهد ربوبية الله -عز وجل- في البداية والنهاية -في الإحياء والإماتة- يعي قلبه أن لكل هذه المخلوقات أولًا كما أن لها آخِرًا، وأن الدنيا بكل مَلَذَّاتِها، لو كانت قد استمرتْ في أيديهم لما وصلت إلينا أبدًا.

يشهد القلب هذا، ويشهد أن الله وَحْدَه الذي له الأمر والنهي، والخَلْقُ كُلُّهُم عَبيدٌ تحت قَهْرِه -سبحانه-، لا يملكون مِن أمرهم شيئًا، فضلًا عن أن يتحكموا في أمور غيرهم؛ كثيرٌ مِن الناس لا يزال يتصور أن عبادًا فُقَراءَ مثله لهم الأمر والنهي، بأَمْرٍ منهم يُقتَل مِن البشر مَن يُقتَل، ويُخَوَّفُ مَن يُخَوَّف، وتُدَمَّر بلادٌ وتُقام حروب، ثم ماذا؟ يجيء أمر الله إلى واحدٍ منهم فيرحل عن هذه الدنيا، أو قد يُصاب بمَرَضٍ أو شَلَلٍ، فلا يستطيع رد ذلك عن نفسه، ألا ترى كَم مِن الملوك يموتون ويَخْلُفُهم غيرهم؟ بل قد يَخْلُفُهم أبناؤهم في كثيرٍ مِن الأحيان، ثم يرتحل كل هؤلاء.

يشهد القلب الذي وُلِد من جديدٍ قَدْرَ الدنيا كما هي في حقيقتها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، ونحن نرى أن الكفار ينالون منها النيل الكثير، فهي قطعًا هَيِّنَة حقيرة عند الله، لكنها ليستْ كذلك في قلوب الكثيرين، فهم مرتبطون بها أشد الارتباط، لو ارتفعت قلوبنا قليلًا لرأت الدنيا فعلًا صغيرة، كما ترى وأنتَ بالطائرة -إذا ارتَفَعْت- المُدُنَ الكبيرة الهائلة، مساحاتٍ صغيرة لا تكاد تُمَيِّز منها شيئًا، ولو ارتفَعْت بسفينة فضاء مثلًا لرأيت الأرض كلها فعلًا كُرَةً صغيرة في وسط كونٍ هائلٍ واسعٍ لا يمكن أن يُدْرَك، المجموعة الشمسية نفسها صغيرة وسط المَجَرَّات الأخرى، والكون واسع، هذا الذي نراه ونعرفه هو 1% فقط، و 99% هو جزء مظلم لا ندري عنه شيئًا على الإطلاق، وكل هذا هو في السماء الدنيا، وأعظم منها السماء الثانية ثم الثالثة إلى السابعة.

والكُرسِيّ الذي هو موضع القدمين وَسِع السماوات والأرض، قال الله -تعالى-: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) (البقرة:255)، والكُرسِيّ إلى جانب العرش كحلقة أُلْقِيَت في فَلَاةٍ، وهو -سبحانه- رب العرش العظيم، فتشهد أن الله -عَزَّ وجَلَّ- أكبر، هكذا تقولها حَقًّا وصِدْقًا، تدرك يقينًا أن الله أكبر وأعظم، الله -سبحانه وتعالى- هو العَلِيُّ الكبير.

ثم يشهد القلب رحمة الله -جَلَّ وعَلَا- بعد ما شهد مُلْكَه وعَظَمتَه، فيتأمل في أنواع الرحمات التي امتن بها الله -سبحانه- على خلقه، وهو الرءوف الرحيم الذي كتب على نفسه الرحمة، وكتب أن رحمته سبقت غضبه؛ فلولا رحمته -سبحانه- في الدنيا والآخرة لما استَقَرَّت لنا حياةٌ، ولما هَنَأَ لنا عيشٌ، وآثار رحمته لا تنفك عن مظهرٍ واحدٍ مِن مظاهر الحياة؛ فبرحمته ينزل المطر ويُسقَى الناس، وتُسقَى بهائمهم، وزروعهم، وبرحمته تجري الأنهار، وبرحمته يقلب الليل والنهار ، ويسخر الشمس والقمر، بل حتى الهواء -الذي قَلَّ ما يتفكر فيه الإنسان- هو مِن رحمة الله -سبحانه وتعالى-.

ولو ازدحم الناس في مكانٍ مغلق -ولو لبُرْهَةٍ يسيرة مِن الزمن- يشعرون بالاختناق، ووقتها يشعرون برحمة الله عليهم بالهواء، وكل هذه الرحمات ما هي إلا جزء واحد فقط مِن مائة جزء، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا، خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ) (متفق عليه).

والرحمة التي أوجدها الله في قلوب الآباء تجاه أبنائهم أظهر وأوضح مِن أن تُبَيَّن، بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أراد أن يُعَلِّم أصحابَه وأُمَّتَه مِن بعده ما اتصف به الله -سبحانه من الرحمة جعل رحمة الأم بوَلَدِها مثالًا حَيًّا يُقَرِّب للأذهان عظيم رحمته واتساعها، فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ) قُلْنَا: لاَ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: (لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا) (متفق عليه).

ثم يتأمل ذلك القلبُ الوليدُ رحمةَ الله الخاصة بعباد الله المؤمنين الصالحين؛ فهي أعظم قدرًا وأعلى منزلة، فهو الذي رَحِمَهم حتى وجَّه قلوبَهم إليه، وعَرَّفَهم الطريق إليه، وجعل قلوبَهم تُحِبُّه وترجوه، وتخافه وتتوكل عليه، وهذه -بلا شك- رحمة أعظم مِن رحمته بسمعهم وبصرهم وقدرتهم الحسية.

هكذا تتعدد مشاهد هذا القلب الوليد؛ فيشاهد أيضًا عِلْمَ الله -سبحانه وتعالى-: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (الأنعام:59)؛ انظر إلى أوراق الشجر في غابات العالم الشاسعة المترامية الأطراف، كم ورقة تسقط؟ كم تصل يابسة؟ كم منها ينبت بعد ذلك؟ كم في البر والبحر والسماوات مِن أنواع الكائنات والمعلومات؟ كل هذا لا يعلمه بتفاصيل تفاصيله إلا الله، ويعلم -سبحانه- السِرَّ وأخفى، السِرّ: الذي تخفيه في نفسك، وما هو أخفى منه: الذي لا تعلمه أنت مِن نفسك! كما قال عيسى -عليه السلام-: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (المائدة:116).

ثم هذه الولادة مِن جديد -كما اقتضت إدراكات- تقتضي إراداتٍ جديدة، يتحرر الإنسان بها مِن أَسْرِ الشهوات والرغبات، والعادات والتقاليد التي تضعه في إطار عبودية لغير الله؛ يتحرر مِن ذلك ليذوق معنى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، يدرك وظيفتَه الأساسية في هذا الكون، ويذوق الإنسان بها طعم الحياة الطيبة، فيعرف رَبَّه ويتوجه إليه بالحب والرجاء والخوف، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والشوق إلى لقائه.

إراداته تتغير؛ يريد سجدة يخشع فيها لله، ويرغب أن يقرأ القرآن بتلاوةٍ يخشع فيها قلبه لله، يريد عملًا صالحًا يُقَرِّبُه أكثر وأكثر مِن مرضاة الله، يتنافس مع إخوانه على حفظ كتاب الله، وفهمه، والعمل به، والدعوة إليه والثبات على ذلك، هذا ميدان تنافسه الذي يستشعر به الحب، ليس فقط بينه وبين الصالحين، وإنما والله يستشعر ذلك الحب حتى مع الجمادات، وكيف لا وهو على يقين أنها مثله تسبح الله -جَلَّ وعَلَا- وتَلْهَجُ بذكره، (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (الإسراء:44).

فتَسْمُوا إراداته إلى أن يريد وجهَ الله والدارَ الآخرة، ويريد أن يتعَبَّدَ له كما تَعَبَّدَ الأنبياءُ، ليَصْحَبَهم في الآخرة كما صَحِبَ في الدنيا سيرَتَهم مِن خلال القرآن العظيم، بقلبه الذي قد وُلِدَ مِن جديدٍ.

بهذا يكون قد تَغَيَّرَ هذا القلبُ في إراداته وحركاته كما تَغَيَّرَ في فَهْمِه وتَصَوُّرِه، فيعلم ويريد ما لم يكن يعلم أو يريد مِن قبْل، تمامًا كما يصير الطفل بعد ولادته؛ يرى ما لم يكن يرى في بطن أمه، ويعلم ما لم يكن يعلم، ثم يريد ما لم يكن يريد داخل بطن أمه، فالقلب الذي يُولد مِن جديدٍ يستغني بالله -عز وجل- عن الناس؛ فلا يريد إلا وجه الله (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى . إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى) (الليل:19-20).

نسأل الله -تعالى- أن يَمُنَّ علينا بقلبٍ حَيٍّ جديدٍ، يريد الله -عز وجل- والدارَ الآخرة، ونسأله -تعالى- أن يجعلنا مِن عباده المخلصين.