الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 13 مايو 2017 - 17 شعبان 1438هـ

(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (5)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالنوع الثاني مِن النفوس التي حَرَّمَ الله -عز وجل- قتلَها، هي: نفوس الكُفَّار المُعاهدين مِن أهل الكتاب، ومِن غيرهم.

وقد غلَّظ النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفك دماء المُعاهدين؛ فروى البُخاريُّ عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) (رواه البخاري)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلَا يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ عَامًا) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، والاختلاف في قدر ريحها على اختلاف أنواع الجنان.

ولَفْظُ الذِمَّة صار عُرْفًا عند أهل العلم في نوعٍ خاصٍ مِن العهود، وإن كان مُستَعمَلًا -شَرعًا ولُغَةً- بمعنى العهد -مُطلَقًا- بأنواعه المختلفة، بل استُعمِلَ في المسلم أيضًا؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ المُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ) (رواه البخاري).

ودراسة أنواع العهود التي طَبَّقَها النبي -صلى الله عليه وسلم- وعَمِلَ بها في حياته، وعَمِلَ بها المسلمون مِن بعده، أَمْرٌ في غاية الأهمية لمعرفة الدائرةَ الواسِعَة التي يصح لهم التعامل بها مع مَن حَولَهم مِن الكفار، في واقعهم المختلف، المتفاوِت في بلادٍ وأحوالٍ مُختَلِفَةٍ في أَزْمِنَةٍ مُختَلِفَةٍ.

وقد وَرَدَ في الكتاب والسُنَّة "أربعة أنواع" مِن العهود بيْن المسلمين وبيْن الكفار، كلُّ واحدٍ منها يثبت به للكافر عصمة الدم والمال والعِرْض.

الأول: "عقد الذمة": وهو عقدٌ مُؤَبَّد، لازِمٌ للمسلمين ما التَزَم به الكُفَّارُ، أَصلُه قولُ الله -عزَّ وجلَّ-: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29)، والحديث الذي رواه مُسْلِم في صحيحه في وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لِقَادَةِ جيوشِه، قال فيه: (وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ -أَوْ خِلَالٍ- فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ) ثم ذَكَر الإسلامَ والهِجْرَةَ، ثم ذَكَر الإسلامَ والبَقَاءَ في بلادِهم يجري عليهم حُكْمُ الله، ثم قال: (فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ).

وهذا العقد يتضمن أمرين: أداء الجِزْيَة، والتزام أحكام الإسلام.

وهو العهد الذي عَقَدَه النبي -صلى الله عليه وسلم- لِنَصارَى نَجْران، ولِمَجُوس هَجَر، وهو الذي عَقَدَه أميرُ المؤمنين عُمَر بن الخطاب -رضي الله عنه- لِنَصارَى بيتِ المَقْدِس والشام عند فتحها، والذي تُمَثِّلُه الوثيقة العُمَريَّة المشهورة.

ويقع كثيرٌ مِن الناس في خطأٍ كبيرٍ في هذا الباب: إذا وجد أن الكفار في معظم بلاد المسلمين لا يؤدون الجِزْيَة، ولا يُلزمون بأحكام الإسلام -إذ لا يوجد مَن يُلْزِمهم بها؛ إذ هي غير مُطَبَّقَةٍ بيْن المسلمين أصلاً- فيظن أن ذلك يجعلهم حَربِيّين؛ فيستبيح دماءَهم وأموالَهم وأَعراضَهم بهذا الظن! وهذا خللٌ كبيرٌ؛ إذ أن انتفاء عقد الذِمَّة لا ينفي وجود أنواع أخرى مِن العهود وَرَد الشرع بجواز عَقدِها مع الكفار حسب المصلحة، سيأتي بيانها.

وعَقدُ الذِمَّة إذا طَلَبَه الكُفَّارُ وَجَب إجابتهم إلى ذلك؛ كما دَلَّ عليه الحديث الذي ذكرناه في صحيح مُسْلِم، ولا يجوز أن يَرْفُضَ المسلمون هذا العقد إذا بَذَلَه الكفار.

ويستمر هذا العقد مَشروعًا إلى زمن المسيح -صلى الله عليه وسلم- فهو الذي ينتهي معه هذا النوع مِن العهود؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ) (متفق عليه). أي: لا يَقْبَلها.

والشروط التي أَخَذَها عُمَر -رضي الله عنه- على أهلِ الذِمَّة هي عند أكثرِ أهلِ العلم لازِمَة في مثل هذا النوع مِن العهود، وبعضُ أهلِ العلم يرى أن بعضَ الشروط هي مقتضى العهد وليست لازِمَة للمسلمين في جميع العهود؛ وهذا الأمر يحتاج إلى تَأَمُّلٍ واجتهاد، حسب ما يراه الإمامُ وأَهْلُ العلم.

النوع الثاني مِن العهود: هو العهد المُطْلَق، وهو عَقْدٌ جائِزٌ، بغير تحديد مُدَّةٍ ولا دَفْعِ جِزْيَة، وأَصلُهُ قولُ الله -تعالى-: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ) (التوبة:1-2)، والآية وإن تضَمَّنَت إنهاءَ هذه العُقود التي بيْن النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين فإنها تضَمَّنَت إثباتَ مشروعيتها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عَقَدَها قبْلَ ذلك، بل هي كانت أكثر عُهودِه -عليه الصلاة والسلام- مع طوائف المشركين، وإنهاؤها لمصالح وظروف وَقَعَت لا يُلْغِي مشروعيتها، ولا يكون ناسِخًا لها بمعنى النسخ الاصطلاحي، فإن الأصل الجمع بيْن الأدلة ما أَمْكَن، والجمعُ مُمْكِنٌ باختلاف الأحوال، ولذلك قال طوائف مِن أهل العلم بجواز هذا النوع مِن العقود مع الكفار حسب مصلحة المسلمين، وقوتهم وضعفهم، وقدرتهم وعجزهم.

وهو العَهد الذي عَقَدَه النبي -صلى الله عليه وسلم- مع يهود المدينة عند قدومه إليها، ويُعرَف باسم: "وثيقة المدينة"، وقد سَبَق شرحُ بُنودِه في عدة مقالاتٍ سابقةٍ فلتُراجَع للأهمية "وثيقة المدينة... معالم وملامح".

وهذا النوع مِن العُهودِ تثبت به عِصْمَة الدم والمال للكُفَّار، ويكون لهم حقوق حسب العهد، والصحيح أنه ليس منسوخًا -كما ذكرنا-، بل يَجُوز عَقْدُه حسبَ المصلحة.

ومعظم الدساتير المُعَاصِرَة والمُعاهَدات الدولية بيْن الدول أشبه بهذا النوع مِن العُهود، سواء كان الكُفَّار داخل الدولة الإسلامية -كَيَهُودِ المدينة-، أو كانوا في إقليمٍ منها كنوعٍ مِن الحُكْمِ الذَاتِيّ، أو كانوا في دَولة مُستَقِلَّة مثل مُعَاهَدَة السلام أو مُعَاهَدَة الهُدْنَة بيْن العرب وإسرائيل.

النوع الثالث: عَقد الهُدْنَة المُؤَقَّتَةِ بِمُدَّةٍ، وهو المَذكور في قوله -تعالى-: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى? مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:4).

وهو العَهدُ الذي عَقَدَه النبي -صلى الله عليه وسلم- لِمُشْرِكي قُرَيش ومَن دَخَل معهم في عهدهم في الحُدَيبية، وهو عقد لازم إلى المُدَّة ما لم يَنْقُضه المشركون.

ويُلاحَظ في مسألة نَقْضِ العَهْدِ أن الذي يُقَرِّر نقضَ العَهد هو الإمام، وليس آحاد الناس؛ فقد تكون المَصلَحة التي يراها الإمام في إمضاء العقد حتى لو نَقَضَ بعضُ المشركين هذا العهد وتَمَكَّن المسلمون منه؛ فقد رَوَى مُسْلِم في صحيحه عن سَلَمة -رضي الله عنه- قال: "قَدِمْنا الحُدَيْبِيَةَ... إلى قوله: فلما اصْطَلَحْنا نحن وأهل مَكَّة فجَعَلوا يَقَعون في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأبغضتهم؛ فتَحَوَّلْتُ إلى شَجَرَةٍ أُخرى، وعَلَّقوا سِلَاحَهُم واضطجَعوا، فبينما هم كذلك إذ نَادَى مُنادٍ مِن أسفل الوادي: "يا لَلمُهاجِرين؛ قُتِلَ ابنُ زُنَيْم" قال: فاخْتَرَطْتُ سَيْفِي، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَى أُولَئك الأربعة وهُم رُقودٌ، فأَخَذْتُ سِلاحَهُم فجَعَلْتُه ضِغْثًا في يدي، قال: ثم قُلْتُ "والَّذي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- لا يَرْفَعُ أَحَدٌ منكم رَأسَه إِلّا ضَرَبْتُ الذي فيه عيناه" قال: ثم جِئْتُ بهم أسُوقُهُم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجاء عَمّي عامر بِرَجُلٍ من العَبَلَات يُقالُ له "مِكْرَز" يَقودُه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على فَرَسٍ مُجَفَّفٍ في سبعين مِن المشركين؛ فنَظَر إليهم رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "دَعُوهُم يَكُن لهم بدء الفُجُور وثناه" فعَفَا عنهم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وأَنْزَلَ الله: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) (الفتح:24).

والشروط التي تَضَمَّنَها صُلْحُ الحُدَيْبِيَة تُبَيِّنُ لنا دائرةً واسِعَةً في هذا النوع مِن العُهود؛ فقد قَبِل النبي -صلى الله عليه وسلم- شُروطًا مُجْحِفَة بالمسلمين مِن أجل إتمام هذا الصلح.

وفِقْهُ الحُدَيْبِيَة يحتاج إلى تفصيل لعَلَّنا نَذْكُرُه في مقالٍ قادمٍ -إن شاء الله-.