الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 20 أبريل 2017 - 23 رجب 1438هـ

الهجوم على التراث... وتمكين الإرهاب مِن عقول الشباب!

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ابتُلينا في هذه الأزمنة بطائفةٍ مِن كارهي تُراثِ أُمَّتِهم؛ بدأوا في أول أمرهم يذكرون هذا الأمر في لَحْنِ القول، فينتقدون بعض الأخطاء هنا أو هناك، ويدُسّون في ثنايا كلامهم بعض الأحاديث الصحيحة التي تستشكل على بعض العامة، فيطالبون بشرحها أو توضيحها، وربما تَجَرَّأ بعضُهم فطالَب بتضعيفها رغم حكم العلماء عليها بالصحة، وقد تكون في "البخاري" أو "مُسْلِم"!

ثم بدأتْ هذه النعرة تزداد على يد "سيد القمني" الذي منحه "فاروق حسني" -وزير الثقافة الأسبق- جائزة الدولة التشجيعية، قبْل أن يسقط "مبارك" ووزراؤه، وينزوي "فاروق حسني"، ويختفي "القمني"، "والسعيد مَن وُعِظَ بغيره".

ورغم أن ثورة "25 يناير" كانت في مهدها مظاهراتٍ مُوَجَّهة ضد تجاوزات الداخلية، وحوّلها عناد النظام آنذاك إلى ثورةٍ شعبية؛ إلا أن كثيرًا مِن الرموز العلمانية حاولتْ أن تجعل المطلب الأول للثورة هو حذف أو تعديل المادة الثانية مِن الدستور التي تنص على مرجعية الشريعة الإسلامية.

قد يكون مِن العسير عليكَ أن تتفهم أن شخصًا مُسلِمًا تزعجه هذه المرجعية، رغم أن مِن البديهيات أن المسلم يخضع لهذه المرجعية، بل يجعلها المرجعية العليا في حياته؛ مصداقًا لقوله -تعالى-: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الجاثية:18).

وقد يكون مِن العسير عليك أن ترى مسلمًا تزعجه هذه المادة، رغم أن قيادات كَنَسِيَّةٍ كبرى كانوا -وما زالوا- يُرَحِّبون بها؛ إدراكًا منهم أن الشريعة حَثَّت على الوفاء لهم بعهدهم، وحفظتْ لهم حقوقهم قبْل أن يتحدث العالم عن حقوق الأقليات.

ولكن الأكثر عسرًا مِن القضية الأولى أن تستوعب كَمّ المُغالَطات المنطقية، والقفز على كل الحقائق حينما يُدرِجها البعض مَطْلَبًا شعبيًّا، أو يجعلها أول استحقاقات الثورة، ولكن هذا ما حدث!

نخلص مِن هذا: أن هناك فريقًا لديه "عقيدة" يريد أن يفرضها على الجميع، بلا حُجَّةٍ، ولا حِوارٍ، ولا بُرهانٍ، بل يحاول دائمًا أن يستدرج الدولة ذاتها -بكل أجهزتها- لتخوض حربًا ضد جزءٍ مِن مُكَوِّنات أُمَّتِها، أو ضد مؤسسة لها قيمتها العالمية الكبرى مثْل مؤسسة "الأزهر"، وأن هذا الفريق يستثمر أي حدث -ولو كان بعيدًا كل البعد عن قضيته-؛ لكي يثيروا قضية مرجعية الشريعة في الدستور، أو يثيروا قضية "تطويع الدين لأهواء البشر"، وإن اختاروا له أحيانًا ألفاظًا مُجْملة، لها معانٍ حَسَنَةٍ، وإن كانوا يعنون بها معانٍ باطلة مثل: "تجديد الخطاب الديني - أو مواكبة روح العصر - أو غير ذلك".

اشتعلتْ معركة مرجعية الشرعية في الدستور، وانزوت الأصوات التي تعترض على مرجعية الشريعة ذاتها، لينصَبّ الكلامُ على الخوف مِن أن يصل إلى البرلمان أغلبية ذات فَهْمٍ متشدد للشريعة؛ فيشرعون ما يريدون باسم الشريعة.

وهو تخوف يبدو منطقيًّا في ظل وجود "تَطَرُّفٍ" حقيقي موجود في كل زمان ومكان، فضلاً عن درجة النسبية التي يموج بها المجتمع بشأن مفهوم التطرف.

ومِن هنا اتفق الجميع على أن المَخْرَج هو اعتبار "الأزهر" هو الجهة المنوط بها كل ما يتعلق بالشئون الإسلامية، ودارت الأيام، وجاء حكم "الإخوان" وما كان فيه مِن أخطاء، وما كان بعده مِن خطايا، ليظن البعض أن الغضب المُوَجَّه إلى تلك الأخطاء يمكن توجيهه إلى الشريعة ذاتها، حتى إن أحدهم دعا إلى مليونية "خلع الحجاب"!

وتَجَرَّأَ البعضُ على مهاجمة "الأزهر" ذاته، ثم تَدَرَّجَت به نشوة الشعور بأنه "المُخَلِّص" و"الثائر" الذي جاء ليعالج أخطاء قرون مضت، ليعلن الثورة على "البخاري" و"مسلم"، وعلى كتب الفقه وكتب التفسير!

بالطبع وُجِدَت أفكار شاذة، ووُجِدَ سلوكٌ مشين ينتسِب إلى الإسلام، وإلى الدعوة الإسلامية، وكلما حدث شيء مِن هذا يُبادِر "الأزهر" وغيره ممن يرفضون ذلك الإرهاب -كالدعوة السلفية التي كان مِن أبرز القضايا التي اهتمتْ بها على مدار نحو مِن أربعين عامًا الرد على فكر التكفير والتفجير- إلى التبرؤ مِن هذه الأفعال، وبيان أنها ليستْ مِن الإسلام في شيء، وأنها مِن نتاج أفكار أصحابها، وأن الشريعة بريئة منها؛ إلا أن هذا الفريق المشار إليه عادة ما يجدها فرصة سانحة لكي يكيل التهم الباطلة "للأزهر" و"للدعوة السلفية" وغيرهما، بأنهم مسئولون عما تبرأوا منه!

فعندما نُبَرِّئُ "الأزهر" وغيره مِن أفعال "داعش"؛ يخرج علينا بعض أولئك النفر، مُدَّعين أن "الأزهر" -ومِن قبْله كتب التراث- تدعو إلى ما تفعله "داعش"! ومهما حاولتَ إقناعَهم بأن نصوص الكتاب والسُّنة تُجَرِّم أفعال "داعش"؛ إذا هم يشغبون عليك برواياتٍ تاريخية واهية؛ لمحاولة إثبات أن سلوك "داعش" سلوك إسلامي ضارب بجذوره في التاريخ!

وأما "الدعوة السلفية": فقد وَجَد القوم بُغيتَهم في شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله- الذي تُحَرِّفُ "داعش" كلامَه كما يُحَرِّفون كلام مَن سَبَقه، وإذا كانت "السلفية" تقدِّر تراث "ابن تيمية"؛ فهم و"الدواعش" سواء عند القوم! وسوف يأتيك في آخر المقال موقف عملي لشيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله- يبين أنه بريء مِن "داعش" وسلوكها، ومما يرميه القوم به.

وعندما تحدث جرائم تحرش "لا إنسانية" سببها المخدرات، وسينما العري، وضعف الوازع الديني، إلخ؛ فالمتهم الأول عند هؤلاء هو الحجاب!

فإن قلتَ لهم: إن الحجاب وقاية مِن هذه الجرائم لا العكس؛ تمسكوا بالجرائم النابعة مِن شذوذ مُفرِط، مثل: اغتصاب الرُضَّع أو التحرش بالمُسِنَّات، وهذه الجرائم تحدث كنتيجةٍ لتعاطي المخدرات، والهَوَس الجنسي، ووجود هذه الجرائم المقزِّزَة لا ينفي القاعدة العامة التي تطبق على الأشخاص الذين يملِكون قدرًا طبيعيًّا مِن الشهوة، وهي أن تهذيب هذه الشهوة بالنسبة لهم يتمثل في غض البصر، وحفظ الفرج، وستر العورة، كما قال -تعالى-: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (النور:30-31)، وكما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب:59).

إذًًا نحن أمام موقف عقائدي يتبناه البعض ويُصَرِّح به وينافح عنه، وهو أنه لا بُدَّ مِن نسف كتب التراث، ونسف كل مَن يتبناها؛ ابتداءً بالمدارس الفقهية للأئمة الأربعة وغيرهم، وأئمة الحديث، وانتهاءً بـ"شيخ الأزهر" الدكتور "أحمد الطيب"، وهيئة كبار العلماء، وكل مَن يتبنى أخذ العلم مِن كتب التراث.

وجاءتهم الفرصة على طبق مِن ذهبٍ، وهي التفجيران الإرهابيان اللذان حدثا في كنيستين في يومٍ واحد؛ وفجأة، وبدون مقدمات، وكأننا أمام مشهد لـ"أولتراس" فريق كرة قدم، يحاول أن يؤثِّر على الحَكَم، وأن يرهب عين المُشاهِد، ليتوَهَّم شيئًا غير الذي يُشاهِده أمامَه؛ وجدنا محاولة لإلصاق التهمة "بالأزهر"، وبدأت التهمة أولًا بالتقاعس عن نشر الفكر الوسطي؛ مما يعني التسليم بأن "الأزهر" يمثـِّل فكرًا وسطيًّا؛ إلا أنه -مِن وجهة نظرهم- مسئول عن هذا الملف المتشابك الأطراف بيْن الفكري والسياسي والأمني.

إلا أن الفريق المعادي للتراث لم يرضَ بهذا القدر؛ لأن قضيته في الحقيقة ليستْ هذه، وإنما قضيته هي محاربة التراث، وكل مَن يحافظ عليه، وعلى رأسهم "الأزهر"؛ فأبوا إلا أن يكرروا مُغالَطة أن "كتب التراث" ذاتها تدعو إلى هذا، مع أنهم لا يفسِّرون لنا: لماذا؟ وكيف رَعَت الأمة الأقليات وصانت لها حقوقها لما كانت مرجعيتها الحقيقية هي تلك الكتب؟!

وعند هذا الفريق أن "الأزهر" طالما يدرِّس "كتب التراث"؛ فهو في "قفص الاتهام!"، مع ملاحظة أن مرتكبي هذه التفجيرات لم يدرسوا يومًا في الأزهر، بل ولم يُصَلّوا يومًا في مسجدٍ مِن مساجد المسلمين العامة، بل أقاموا لأنفسهم مساجدهم الخاصة؛ لأنهم يُكَفِّرون المجتمع، وهذه الجماعات معلوم عنها قِلَّةَ عنايتها بكتب التراث أصلاً؛ فهم لا يطّلعون على كتب التراث -سواء مِن خلال "الأزهر" أو غيره-، وإنما يتداولون كتيباتٍ صغيرة لا يخرجون عنها، فيها آيات منتزعة مِن سياقها، وأحاديث بمعزل عن شروحها الموجودة في كتب التراث، وربما نقلوا بعض النقول المبتورة لبعض العلماء، وربما نقلوا أحيانًا عمن يعتقدون كفره.

ولو افترضنا جدلاً أن أحد الإرهابيين ينتمي "للأزهر"؛ فهل يكفي هذا للخروج بنتيجة أن مناهج "الأزهر" مسئولة عن "الإرهاب"؟!

إذًا فسوف تطول التهمة مناهج التربية والتعليم، ومناهج كثير مِن الكليات، بل ومناهج الدراسة الغربية؛ حيث إن الدول الغربية أصبحت الآن هي المُوَرِّد الرئيسي لـ"داعش"، وليستْ بلاد المسلمين.

إنه لا يمكن الربط بيْن أي رافد تعليمي أو فكري وبيْن سلوك شخص ما؛ إلا إذا كان هذا السلوك نابعًا مِن هذا الفكر، وبالتالي فإذا تلقى شخص تعليمًا وسطيًّا ثم أَثَّرَ عليه فكرٌ آخر -وإلا فالمتطرفون لا يولدون كذلك- فهذا لا يعود باللائمة على الفكر الوسطي؛ ربما احتاج الأمر إلى دراسة: هل يبني ذلك المنهج قدرًا كافيًا مِن المناعة ضد هذا التطرف والإرهاب أم لا؟

وإذا أردنا أن نُعالِج هذا الأمر علاجًا صحيحًا؛ فليس الحل في استسهال الربط بيْن السلوك الإرهابي وبيْن أي انتماء جغرافي أو تعليمي أو ديني ينتمي إليه الإرهابي؛ وإلا كان الغرب مُحِقًّا في إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام والمسلمين لكون بعض الإرهابيين ينتمون إلى الإسلام! بل ويفعلون الإرهاب باسمه، ولكن كل هذا لا يمكن أن ينسحب إلا على مَن اعتنق هذا أو بَرَّرَه.

إننا أمام حالة أشبه بحال مَن يرى أن أمثل حل لوجود بعض الأطعمة الفاسدة في الأسواق هو أن يمنع بيع الطعام أصلاً، أو مَن يرى أن العلاج الأمثل لظاهرة استعمال بعض الأدوية كمخدراتٍ أن نمنع هذه الأدوية تمامًا رغم حاجة الناس إليها! بل يزيد على هذا المطالَبة بحرق الكتب التي تبيِّن طرق تصنيع ذلك الدواء، ومحاكمة الأطباء الذين يصفونه على نحو صحيح، ومحاكمة الأساتذة الذين يُعَلِّمونهم!

والمناقشة مع هؤلاء تطول في جوانب عدة، ولكن دعنا نناقش فكرتهم مِن حيث النتائج التي يمكن أن تؤدي إليها:

هب أنه تم تعديل مناهج "الأزهر" لتخلو مِن الكلام على مقارنة الأديان، وعلى لزوم الشريعة، وهب أنه تم تدريس تفسير انتقائي للقرآن الكريم لا يمر على الآيات التي تبيِّن عموم رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- للعالَمين، وتُبَيِّن حال مَن كَفَر بها، ومتى يُسَالَم، ومتى يُقَاتَل، وأخلاق المسلمين في حالتي السِّلْم والحرب، ولا يتناول النصوص الشرعية المتعلقة بالجرائم الأخلاقية، مثل: الزنا، وشرب الخمر، وغيرها مِن الأمور التي هي في شريعة الله جرائم، بينما هي في عرف الحضارة الغربية مِن المباحات.

لا أستطيع أن أتخيل إلى أي مدى يمكن أن يصل التعديل المطلوب، ونحن نسمع كل يوم عن مليونية خلع الحجاب، وعن أن التسامح مع الغير والتعايش السلمي معه لا يمر إلا بالاعتقاد بصحة عقائد جَزَم القرآنُ ببطلانها، ونسمع عن مقاومة الإرهاب بنشر صور نساء يرتدين ملابس البحر، و... إلخ.

ولكن عمومًا لو تخيلنا أنهم وضعوا كل ما يشاءون مِن تجديد وتطوير، و... و...

ما هي النتائج المتوقع حدوثها مِن وراء هذه الإجراءات؟

إن الإجابة عن هذا السؤال تحتاج منا أن نعرف مَن هو الإرهابي؟ وكيف يتكون؟

سنجد أن الإرهابي في الغالب لديه عاطفة دينية مع جهل بالدين، يجعله لا يميز بيْن الكافر الحربي وبين المُعاهد، ويجعله لا يفرِّق بيْن ردة المسلم عن الإسلام وبيْن المعصية، وتجعله لا يفرق بيْن القتال في ساحات الجهاد المنضبط شرعًا وبيْن قتل المستأمنين أو الغدر أو نقض العهد أو الاحتراب الداخلي.

وعمومًا؛ الإرهاب ينشأ مِن عاطفةٍ دينية، مع جهل بالخطوط الفاصلة بيْن تلك المعاني المتداخلة.

ويبقى السؤال: هل هناك أمل في إنقاذ أمثال هؤلاء؟

والجواب: أما الذين اعتنقوا بالفعل هذا الفكر؛ فلنا في الخليفة الراشد عَلِيّ بن أبي طالب وابن عباس -رضي الله عنهم- أسوة حسنة في هذا؛ حيث أرسل عَلِيٌّ -رضي الله عنه- ابن عباس -رضي الله عنهما- إلى الخوارج فَنَاظَرَهُم، وعاد ومعه الثلثان وبقي الثلث، وهذا الثلث هو الذي كَلَّف الدولة الإسلامية حينها الكثير مِن الوقت والجهد، ولولا فضل الله برجوع الثلثين بعد المراجعة والمناظرة لكان الخطب أفدح والخطر أشد.

هذا مِن جهة العلاج، وأما الوقاية فهي بنقد هذا الفكر قبْل أن يتغلغل إلى عقول وقلوب الشباب، ولكن في كل الأحوال سيفلت البعض؛ ولكن مع تطبيق الوقاية والعلاج سيكون مَن يفلتون أقل ما يمكن.

إذًا العلاج: أن تقنع هذا الشباب -الذي توهم أن الدِّين يأمره بهذا الفساد- أن القرآن لا يأمر بهذا، وأن تفسِّر له النصوص القرآنية التي تدعو أهل الكتاب والوثنيين وغيرهم إلى الإسلام، والتي تبيِّن لهم ما كانوا فيه يختلفون.

وفي ذات الوقت تشرح له الآيات والأحاديث التي تبيِّن وجوب الوفاء بالعهد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة:1)، وتبيِّن له سُنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي وَفَّى لمُشرِكي قريش بعهدهم، وليهود المدينة بعهدهم حتى كانوا هم مَن غَدَر وأَصَرَّ على الغدر (ربما يكون لدعاة التجديد قول آخر في المسألة يتماشى مع وجهة نظر مستشارة "ترامب"، والتي ترى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو من غَدَر، وحاشاه -صلى الله عليه وسلم- مِن ذلك)، كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن وفادة وفد نصارى نجران؛ هذا على مستوى غير المسلمين.

وفي نطاق التعامل مع المسلمين: نُبَيِّن له أنه ليستْ كل المعاصي كُفرًا، ونُبَيِّنُ له هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في التعامل مع العُصَاة، وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقواعده التي تجعل منه أداة لحفظ أمن المجتمع والتناصح بيْن أفراده، وليست بابًا لتنازعه واحترابه.

وهذا كله لن يكون مُقْنِعًا إلا إن كان نابعًا مِن الكتاب والسُنَّة الواردة في كتب الصِّحاح والسُنَن، ومِن خلال كتب أئمة الإسلام العظام كالأئمة الأربعة وغيرهم عبْر العصور.

وهذا الخطاب الموجود في كتب التراث والذي يدرسه "الأزهر" -سواء بذات صورته التراثية أو في قالبٍ جديد مع بحث ما يستجد مِن ضرورات العصر- هو الحق -إن شاء الله-، وهو الذي يمكن أن يعصم الله به نسبة لا بأس بها ممن سلك طريق الإرهاب.

وستبقى نسبةٌ بلغ بها الكِبْر، أو بلغت بها شهوة الانتقام، أو غير ذلك مِن الأسباب، مَبْلَغًا لا يُجدي معها بعده نُصْحٌ، إلا أن يشاء الله فتتغير الأسباب التي تحول بينهم وبيْن قبول النصيحة، ولكن هذا المنهج الوسطي متى نُشِرَ بقوة سيقلل جدًّا مِن انتشار المناهج المتطرفة.

ونظرة واحدة على أماكن انتشار جماعات التكفير في مصر سترى التناسب العكسي بينها وبيْن انتشار الدعوة الإسلامية السلمية.

وكذلك إذا نظرنا إلى خريطة العالم ككل، وما هي أكثر الدول التي تُصَدِّر أفرادًا لـ"داعش"؛ سنجدها الدول الأوروبية التي يوجد فيها مسلمون، ولكن لا توجد فيها حرية دعوة حقيقية؛ فتتصيد "داعش" فرائسها عبْر "الإنترنت"، وكذلك البلاد الإسلامية التي صبغتْ مؤسساتها الدينية الرسمية بصبغة علمانية.

وهذا مما يدفعنا إلى الشق الآخر مِن السؤال: هل يمكن للمناهج التي يُراد "للأزهر" أن يتبناها أن ترد إرهابيًّا واحدًا عن فِكْرِه، أم أنها ستُلقِي بمزيدٍ مِن الزيت على النار، وستقدم للمتطرفين ألفَ دليلٍ ودليلٍ على أن الدين لم يعد له حامٍ غيرُهم، وأن "الأزهر" وكل الجمعيات الدعوية السلمية قد تنكبوا لتراث الأُمَّة وخرجوا عليه؟!

نعم، قد تخرج هذه المناهج إذا طبقها "الأزهر" -وقاه الله مِن كل سوء- خِرِّيجين يرفعون شعار العلمانية، أو يقبلون بادعاء أن الشعب المصري علماني بطبعه، أو يتحسرون على شكل الجامعة الذي كان أفضل قبْل انتشار الحجاب فيها، أو يرهبون الناس في عيد الأضحى مِن ذبح الأضاحي بدلًا مِن الترغيب فيها، أو يجعلون مفتاح الجنة وباب الدخول في الإسلام "شهادة أن لا إله إلا الله" دون قرينتها "شهادة أن محمدًا رسول الله"، أو يدرسون تاريخنا كما لو لم يكن فيه فترة مضيئة إلا أربعين سنة بالكاد، والباقي ظلماتٌ بعضها فوق بعض! (هذه نماذج  حقيقية لما يدعو إليه هؤلاء الذين يريدون أن يقودوا ثورة التجديد في الأزهر الآن!).

بالطبع لو كان ما يدعو إليه هؤلاء هو الحق لوَجَب المصير إليه، وتَحَمُّل ما ينتج عنه مِن تَبِعاتٍ، حتى ولو كانت هذه التبعات هي المزيد مِن التطرف والإرهاب؛ ولكن أن يزعم زاعِمٌ أن "الأزهر" -أو غيره ممن يرى هذا الفكر باطِلاً- يجب عليه أن يتحول إليه؛ لمنع الإرهاب والتطرف فهو مِن باب المُغالَطة المُرَكَّبة؛ لجَرِّ "الأزهر" إلى أن يتخلى عن مقاومة آرائهم المنحرفة التي لا تقل تطرفًا عن آراء مَن يدعون إلى القتل، ولا يقل سلوكهم -في إرهاب مخالفيهم فكريًّا- عمن يحملون السلاح، رغم أنهم يدركون تمامًا أنه في حالة تحول "الأزهر" إلى ذلك الفكر؛ لن يزداد الجانب الآخر إلا تطرفًا.

خاتمة:

لعلي تناولتُ في مناسبة أخرى أن النظم الإسلامية سبقتْ كل النظم المُعاصِرة في ضرورة وجود عمل مجتمعي يؤازر عمل الدولة في كل المجالات، ولا يوجد مجالٌ أحوج إلى هذا مِن مجال الدعوة إلى الله "رغم أن كبار المُدافِعين عن هذا التوجه السياسي يأتون عند الدعوة ويطالبون بعكسِه لحاجةٍ في صدورهم!".

ومِن هذا الباب نرى: أن "الأزهر" هو المؤسسة الرسمية المسئولة عن الدعوة الإسلامية، وأن هذا لا يمنع مِن -بل يُحَتِّمُ- وجود جمعياتٍ دعوية؛ طالما كانت تدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

ولقد كان "للدعوة السلفية" جولات كثيرة مع كثير مِن الاتجاهات المُغَرَّر بهم لإقناعهم أن نصوص الكتاب والسُنَّة وكلام الأئمة -لا سيما أئمة الإصلاح الديني الذين يتشبث الإرهابيون ببعض كلامهم، لا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية- كلها تصب في اتجاهٍ واحد؛ هو الحفاظ على أمن واستقرار بلاد المسلمين، وحفظ العهود والمواثيق مع غيرهم، مما يكون له أثر طيب -بفضل الله- في تحصين "كثير" مِن الشباب المُستَهدَفين بفكر التكفير.

وهذا الدور الذي تؤديه الدعوة لا يلزم منه التطابق في كل المناهج التي يدرسها الأزهر، فمثلاً: إذا كان "الأزهر" يدرس المذهب الأشعري في الاعتقاد؛ إلا أن شيخَه يقرر أن "مذهب أهل الحديث" أحد مذاهب "أهل السُّنة والجماعة".

والعجيب أن بعض مَن يتبنون مناهج مُصَادِمة للتراث ككل -ومِن ثَمَّ مُصَادِمة للأزهر- يحاول الوقيعة بيْن الأزهر و"الدعوة السلفية" مِن باب أن "الدعوة السلفية" لا تتبنى المذهب الأشعري! وكثير ممن يحاول إثارة هذه القضايا لا يعرف شيئًا عن المذهب الأشعري، ولكنها محاولة لإقصاء "الدعوة السلفية" بدعوى أنها تخالف "الأزهر"، ثم إقصاء "الأزهر" بدعوى أنه يخرج إرهابيين، أو -على الأقل- فشل في حربهم!

و"الدعوة السلفية" لا يمكن أن تنجر إلى مثل هذه الفخاخ؛ بل ترى "الدعوة السلفية" أن بقاء الأزهر -قائمًا بدوره- عاملٌ كبير مِن عوامل استقرار مصر والعالم الإسلامي، وبالتالي فنحن مِن باب النصح للأُمَّة نُحَذِّر مِن خطورة الهجوم على "الأزهر" كمؤسسة، وبدرجة أشد مِن خطورة الهجوم عليه كهيئةٍ تعنى بالتراث.

وبالتالي آثرتُ أن يكون الرد هنا على الهجوم الشرس الذي تَعَرَّضَ له "الأزهر"، بينما أعرضتُ عن الهجوم الذي تتعرض له "الدعوة السلفية" تقديمًا للأهم على المهم.

ومع هذا، فالمواقف العملية في مثل هذه القضايا أبلغ مِن عشرات الكتب، والمواقف العملية "للدعوة السلفية" منذ أحداث "محرم بك" قبْل ثورة "25 يناير"، ثم حماية الكنائس في فترات الانفلات الأمني في "25 يناير"، وإلى الآن؛ تثبت أن الجمع بيْن الولاء للعقيدة وحُسن معاملة مَن لا يؤمن بها ممكنٌ واقِعًا.

ولعل مِن المناسب هنا أن نرجع أيضًا إلى موقف رجل يَدَّعِي بعضُ دُعاة العنف والإرهاب أنهم تتلمذوا على كُتُبِه -ومِن ثَمَّ يُبالِغُ خصومُه في رميه بهذا بالباطل-، وهو شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله-؛ وهو مِن أكثر الناس حِرصًا على الولاء والبراء والوضوح العَقَدي، ولكنه في ذات الوقت مِن أكثر الناس حِرصًا على احترام العهود والمواثيق، ومِن أكثرهم بيانًا لمسئولية الدولة الإسلامية والمجتمع المسلم عن حماية الأقليات، وهذا ما طَبَّقَه عمليًّا في موقف يتجلى فيه الوسطية في العدل والإنصاف في أبهى صُوره.

قال شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله-: "وقد عَرَفَت النصارى كلُّهُم أني لما خاطبتُ التتار في إطلاق الأسرى وأطلَقَهم "غازان" -فسمح بإطلاق المسلمين- قال لي: لكن معنا نصارى أخذناهم مِن القدس، فهؤلاء لا يُطْلَقون! فقلتُ له: بل جميع مَن معك مِن اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا؛ فإنا نفتكهم، ولا ندع أسيرًا؛ لا مِن أهل الملة، ولا مِن أهل الذمة! وأطلقنا مِن النصارى ما شاء الله!".

نسأل الله -تعالى- أن يحفظ مصر وأهلها مِن كل مكروهٍ وسوءٍ.