الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 17 أبريل 2017 - 20 رجب 1438هـ

مراعاة المشاعر (2)

كتبه/ أحمد شكري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- المثل الأروع في رهافة الحِسِّ ورِقَّةِ المشاعر، والحرص على مراعاة مشاعر الآخرين.

- فمِن ذلك: مراعاته لمشاعر الشوق إلى الأهل:

فَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ -رضي الله عنه- قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً -وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا- فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا قَالَ: (ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ، وَصَلُّوا، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ) (رواه البخاري).

وهنا تظهر رهافة حِسّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يطلق عليه في العصر الحديث "الذكاء الاجتماعي"؛ حيث أدرك مشاعر هؤلاء الشباب دون شكوى منهم؛ وإلا فكيف يمكن أن يراعي مشاعر الآخرين مَن يعجز أصلًا عن إدراك هذه المشاعر؟!

- ومِن ذلك: مراعاته -صلى الله عليه وسلم- مشاعر الأم تجاه وليدها:

فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَالَ: (إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ) (رواه البخاري).

فبرغم رغبته -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة إلا أنه يُرَجِّح فضيلة مراعاة المشاعر على فضيلة العبادة الذاتية؛ فمراعاة المشاعر مِن حسن الخُلُق، وحسن الخُلُق هو أثقل شيء في الميزان.

- ومِن ذلك: مراعاته لمشاعر الابن تجاه والده:

فعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: (فِي النَّارِ) فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ؛ قَالَ: (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم وأحمد واللفظ له).

قال النووي -رحمه الله-: "قَوْله -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ) هُوَ مِنْ حُسْن الْعِشْرَة لِلتَّسْلِيَةِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْمُصِيبَة". أي أنه -صلى الله عليه وسلم- لما رأى مشاعر الحزن بادية على وجه هذا الصحابي أراد أن يُسَلِّيه ويعزيه؛ فقال ذلك تطييبًا لخاطِرِه.

- ونهى عن سَبِّ الأموات؛ لأنه يؤذي الأحياء، ففي الحديث عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

- ومِن أعجب صور مراعاة المشاعر: أن يُراعي النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مشاعر إخوانه حتى وهو نائم، فقد راعى غَيْرة عُمَر -رضي الله عنه- وهو في المنام، فقال -صلى الله عليه وسلم- وهو يقص على أصحابه رؤياه: (وَرَأَيْتُ قَصْرًا بِفِنَائِهِ جَارِيَةٌ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: لِعُمَرَ. فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ فَأَنْظُرَ إِلَيْهِ فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ عُمَرُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَيْكَ أَغَارُ؟!) (متفق عليه).

وقد تجد في حياتنا مظاهر عديدة مِن التفريط في هذا السلوك الرفيع، كما تجد مَن يشتكي مِن كثرة بكاء الأطفال بالليل لزميله المحروم مِن الإنجاب أصلاً، أو مَن يعنـِّف أخًا على تغيبه عن أحد اللقاءات بعد أن اعتذر بمرض ابنه، ولا يكلف نفسَه أن يطمئن على صحة الطفل؛ فضلاً عن أن يعرض المساعدة!

والمقصود أن يراقب كل منا نفسَه في تعاملاته مع غيره؛ لا أن يراقب غيره في التعامل معه، فيصير مفرط الحساسية لكل حركة أو إشارة ممن حوله؛ فيفسر ويحلل، ثم يحزن ويبتئس، ثم يعتزل وينطوي؛ فهذا سلوك ضعيف الشخصية، فاقد الثقة بالنفس.

فكلٌّ منا يطالب نفسه أن يكون شديد الحساسية تجاه مشاعر إخوانه فيراعي أدَقَّ ما تكون المراعاة، ثم يكون شديد التغافل تجاه إخوانه، ومُفْرِطًا في حسن الظن بهم، وبذلك يتم له حسن الخلق.

نسأل الله -تعالى- أن يحسن أخلاقنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.