الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 15 أبريل 2017 - 18 رجب 1438هـ

(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (1)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فهذه الآية الكريمة التي تنظـِّم أخطر شيء في حياة الإنسان "الحياة"، والتي لو فهمناها وتعلمناها والتزمنا بها جميعًا حُلَّت مَشاكِلُنا، ومُنِعت الفتن التي تحدث بيننا؛ أفرادًا وجماعات، ومجتمعات ودولاً، وحُكّامًا ومحكومين، وقُضاةً ومُتَّهَمين، وأمراء ومأمورين، وقادةً ومُتَّبِعين.

ولقد تكررت الآية الكريمة في مواضع مِن القرآن:

- ففي سورة "الأنعام" في الوصايا العَشْر، قال الله -تعالى-: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الأنعام:151).

وفي الآيات المُحْكَمات مِن سورة "الإسراء" التي قال الله -تعالى- عنها -مُبَيِّنًا عظيمَ فضلِها-: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) (الإسراء:39)، قال -تعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) (الإسراء:33).

- وقال -سبحانه- في سورة "الفرقان" في صفة عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) (الفرقان:68-69).

ولقد وردت السُّنة كذلك بتغليظ تحريم قتل النفس التي حَرَّم اللهُ إلا بالحق؛ سواء كانت نفسًا مُسْلِمة أو نفسًا كافرة؛ فإنه لا تَلازُم بيْن وصف الكفر وبيْن جواز القتل؛ فقد يكون الإنسان كافرًا ومع ذلك يكون معصوم الدم والمال، وهي المسألة التي اختلطت على الكثيرين.

- فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ في الدِّمَاءِ) (متفق عليه).

- وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ). قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلُ الرِّبَا، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصِنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) (متفق عليه).

- وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) (رواه البخاري)، وقال ابن عمر: "إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ" (رواه البخاري).

ويُلاحظ أن هذه الأحاديث ورد فيها التحذير مِن قتل النفس -كما ورد في القرآن- لم يَخُصّها بالمؤمن؛ لأنه -كما ذكرنا- هناك أنواع مِن الكفار قد ثبتتْ لهم عصمة الدماء بأنواعٍ مِن العهود.

وقد ورد التغليظ في قتل المؤمن:

- عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ) (رواه ابن ماجة، وصححه الألباني).  

- وعن جندب بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اسْتَطاع منكُمْ أنْ لا يحولَ بيْنَه وبيْن الجَنَّةِ ملءُ كفٍّ مِنْ دمِ امْرئٍ مسلم أن يُهرِيقه كما يَذْبَحُ به دجاجَةً، كلَّما تَعرَّضَ لِبابٍ مِنْ أبوابِ الجنَّةِ حالَ الله بينَهُ وبينَه، ومَنِ اسْتَطاع منكم أنْ لا يَجْعلَ في بُطْنِه إلا طَيِّباً؛ فلْيَفْعَلْ؛ فإنَّ أوَّل ما يُنْتِنُ مِنَ الإنْسانِ بطْنُهُ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني، وقد رُوِيَ مرفوعًا وموقوفًا).

- وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ، إِلَّا الرَّجُلُ يَقْتُلُ الْمُؤْمِنَ مُتَعَمِّدًا، أَوِ الرَّجُلُ يَمُوتُ كَافِرًا) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني).

- وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يَجيءُ المقْتولُ آخِذاً قاتِلَهُ وأوْداجُه تَشْخَبُ دماً عند ذي العِزَّةِ، فيقولُ: يا ربِّ! سَلْ هذا فيمَ قَتَلني؟ فيقولُ: فيمَ قتَلْتَهُ؟ قال: قَتَلْتُه لِتكُونَ العِزَّةُ لِفْلانٍ. قيلَ: هِيَ لله) (رواه الطبراني في الأوسط، وقال الألباني: صحيح لغيره)، وفي رواية: (فَيَقُولُ اللهُ لِلْقَاتِلِ: تَعِسْتَ, وُيَذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ).

- وعن أبي موسى -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا أَصْبَحَ إِبْلِيسُ بَثَّ جُنُودَهُ, فَيَقُولُ: مَنْ أَضَلَّ الْيَوْمَ مُسْلِمًا أَلْبَسْتُهُ التَّاجَ؟ فَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى عَقَّ وَالِدَهُ، فَقَالَ: يُوشِكُ أَنْ يَبَرَّهُ، وَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَيَقُولُ: يُوشِكُ أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى أَشْرَكَ، فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، وَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى قَتَلَ، فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، وَيُلْبِسُهُ التَّاجَ) (رواه الحاكم وابن حبان، وصححه الألباني).

- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) (رواه البخاري).

وقد أخرج العلماء هذه الأحاديث في النهي عن قتل المُعَاهدين، وفي بعضها بلفظ العهد مطلقًا، وهو الذي في البخاري في أبواب الترهيب مِن قتل النفس التي حَرَّم الله إلا بالحق، كما رتبها المنذري -رحمه الله- في "الترغيب والترهيب".

وهو يدل على فهم أهل العلم للآية الكريمة وللأحاديث، بأنها شاملة لنفس المؤمن، ونفس الكافر المُعَاهد بأي نوعٍ مِن أنواع العهود -كما سيأتي إن شاء الله-.

وقد ذكر ابن كثير -رحمه الله- في تفسير سورة "الأنعام" هذا الحديث أيضًا؛ حديث: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ) في تفسير قوله -تعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)؛ فدَلَّ ذلك على ما ذَكَرْنا مِن فهم العلماء أن الآية تضمنت الوعيد الشديد، والنهي عن قتل جميع الأنفس التي حَرَّمَ اللهُ؛ سواء كانت بأصل الإسلام أو كانت بالعهد، أو بنوعٍ آخر مِن النهي.

نحتاج في تَعَلُّم هذه الأدلة مِن الكتاب والسُّنة إلى معرفة أنواع النفس التي حَرَّم الله قتلَها إلا بالحق، ثم معرفة الحق الذي أَذِنَ اللهُ في قَتْلِها فيه، وأي خلل في فهم هذين الأصلين يترتب عليه سفك الدماء الذي حَذَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه.

فلذلك ينبغي أن نتناول هذين الأمرين بشيءٍ مِن التفصيل، في مقالٍ قادِمٍ -إن شاء الله-.