الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 02 نوفمبر 2016 - 2 صفر 1438هـ

شهود آثار ربوبية الله في خلقه (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

الغرض من الخطبة:

- الوقوف على الدروس والفوائد المستفادة مِن الوصية الثالثة من وصايا لقمان -عليه السلام-، ومنها: "التحذير مِن خطر الإلحاد بطريق غير مباشر".

المقدمة:

- الوالد الصالح يواصل تأسيس بنيان بيته بعد التوحيد والإحسان إلى الوالدين على شهود آثار الأسماء والصفات وربوبية الله في خلقه: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان:16).

- أقوال العلماء حول الوصية تدور حول شهود آثار الأسماء والصفات وربوبية الله في خلقه:

القول الأول: لبيان قدرة الله وسعة علمه وإحاطته، وذلك أن ابن لقمان سأله عن الحبة تقع في أسفل البحر أيعلمها الله؟!

القول الثاني: لبيان أن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة من خردل أحضرها الله يوم القيامة حين توضع الموازين.

القول الثالث: لبيان أن الأرزاق والمقادير مكتوبة، ولكل مخلوق كتاب فيه أحواله.

حول القول الأول: "معرفة قدرة الله وسعة علمه وإحاطته":

- الوالد الصالح يربي ولده على أن الله يعلم ويحيط بكل شيء: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان:16)، وقال -تعالى-: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام:59).

- إنها عقيدة الصالحين: (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) (إبراهيم:38).

- تحدَّى الله بذلك الكافرين والملحدين: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:13-14).

- أثر تربية الأبناء على ذلك في الصغر: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف:6). "يعقوب -عليه السلام- يذكر جميع الأمور منسوبة إلى فعل الله -عز وجل-؛ لترسيخ شهود آثار ربوبية الله في نفس ولده".

- أثر هذه التربية في الكبر: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) (يوسف:37)، (ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا) (يوسف:38)، (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) (يوسف:100)، (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف:100-101).

حول القول الثاني: أن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة من خردل أحضرها الله يوم القيامة:

- الوالد الصالح يربي ولده على مراقبة الله في الحسنة والسيئة: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان:16).

- الله يحاسب على الأعمال بمثاقيل الذر: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء:47)، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة:7-8).

- الفساد والظلم المتفشي في الناس سببه عدم المراقبة: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف:49). "عدم المراقبة تسبب الاستهانة بالسيئات ودرجاتها، بل وبعض الناس تنعدم عنده المراقبة فيفجر وينسى أن هناك مَن يحصي عليه عمله".

- الجرأة على ذنوب الخلوات مِن بعض الصالحين سببه عدم المراقبة: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر:19)، (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المجادلة:7).

وقال الشاعر:

إذا ما خلوتَ الدهر يومًا فلا              تقل خلوتُ ولكن عليَّ رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة               ولا أن ما يخفى عليه يغيب

- ندم وحسرة يوم تنكشف اللذة المحرمة الخفية: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران:30).

- أما الصالحون فهم الفائزون؛ لأنهم المحسنون: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) (متفق عليه).

- صور مِن خُلُق المراقبة عند الصالحين: "عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يسد أنفه، وهو يقسِّم المسك، ويطفئ السراج بعد انتهاء مجلس الوزراء".

حول القول الثالث: أن الأرزاق والمقادير مكتوبة، ولكل مخلوق كتاب فيه أحواله:

- الوالد الصالح يربي ولده على الإيمان بأن الله قدَّر كل شيء، ودبر له شأنه صغيرًا كان أو كبيرًا، عظيمًا أو حقيرًا: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان:16). "فيكون تقدير الوصية: أن الحبة الصغيرة جعل الله لها تقدير وتدبير وهداية، وكذلك سائر المخلوقات مهما دقت وصغرت".

- الصغير والكبير والعظيم والحقير يعلمه -سبحانه- ويدبر له أمره: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) (هود:6).

- الصغير والكبير يجعل له أسباب هدايته: وقال -تعالى-: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى . قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه:49-50).

هداية النمل:

- تدخر لزمن الشدة فتعمل في الصيف لفصل الشتاء: "يذكر أن سليمان -عليه السلام- لما رأى حرص النملة شديد، استحضر نملة وسألها: كم تأكل النملة في السنة؟ قالت: ثلاث حبات من الحنظة، فأمر بإلقائها في قارورة، وسد فم القارورة، وجعل معها ثلاث حبات من الحنطة، وتركها سنة، ثم أمر بفتح القارورة عند فراغ السنة، فوجد حبة ونصف، فقال: أين زعمك؟ فقالت: نعم، ولكن رأيتك مشغولاً بمصالح بني جنسك، فاقتصرت على نصف القوت استبقاءً لحياتي إن أنت شُغِلت" (شفاء العليل لابن القيم -رحمه الله-).

- تتضرع عند الشدائد لربها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- يرفعه قال: "خرج سليمان بن داود -عليهما السلام- بالناس يستسقي، فمر على نملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها في السماء، وهي تقول: اللهم أنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن رزقك؛ فإما أن تسقينا، وإما أن تهلكنا، فقال سليمان للناس: ارجعوا، فقد سقيتم بدعوة غيركم" (أخرجه الإمام أحمد في الزهد، والطحاوي في مشكل الآثار، وقال ابن القيم في شفاء العليل: ولهذا الأثر عدة طرق).

- يكره الكذب: ذكر ابن القيم -رحمه الله-: "أن نملة وجدت حبة وضعها رجل فجاءت لترفعها فما قدرت، فذهبت فجاءت بجماعة من النمل معها فرفعها الرجل، فطافوا في مكانها فلم يجدوها فانصرفوا، فتكرر ذلك مرارًا، فلما كان المرة الأخيرة استدار النمل حلقة ووضعوها في وسطها، وقطعوها عضوًا عضوًا" (شفاء العليل).

هداية الهدهد:

- مِن أهدى الحيوان، وأبصره بمواضع الماء تحت الأرض، لا يراه غيره.

- هدهد ينكر الشرك ويدعو إلى التوحيد، ويدفع غضب سليمان -عليه السلام- بالخطاب الذي هيجه على الإصغاء له: (فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ . لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) (النمل:20-21).

مِن عجائب الله في مخلوقاته:

- "رضيع يعيش مع الجراء الصغيرة، وترضعه أمها بعد موت ذويه!" (العقيدة في الله للشيخ عمر الأشقر).

- "القرود يقيمون الحد على قردة زنت!" (حديث عمرو بن ميمون، العقيدة في الله للشيخ الأشقر).

تعلُّم الإنسان مِن الحيوان:

- قيل لإعرابي: "مَن علَّمك اللجاج في الحاجة، والصبر عليها وإن استعصت عليك؟! قال: مَن علَّم الخنفساء إذا صعدت على الحائط فتسقط، ثم تصعد ثم تسقط مرارًا عديدة حتى تستمر صاعدة!".

- وقيل لآخر: "مَن علَّمك حسن الإيثار والسماحة بالبذل؟ قال: مَن علَّم الديك يصادف الحبة في الأرض وهو يحتاج إليها فلا يأكلها، بل يستدعي الدجاج، حتى تجيء الواحدة منهن فتلتقطها، وهو مسرور بذلك! وإذا وضع له الحب الكثير فرقه هنا وها هنا وإن لم يكن دجاج؛ لأن طبعه قد ألِفَ البذل والجود".

نسأل الله الهدى والسداد، وصلى الله وبارك على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.