الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 09 أكتوبر 2016 - 8 محرم 1438هـ

الحقيقة والمجاز في صفات الله -تعالى- (2)

الحقيقة والمجاز في صفات الله -تعالى- (2)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وقد أطلق غير واحد ممن حكى إجماع السلف -منهم: الخطابي- مذهب السلف: أنها تُجرَى على ظاهرها، مع نفي الكيفية والتشبيه عنها".

قلتُ: الذي ورد نفيه في القرآن (التمثيل)، ولكن أهل العلم استعملوا دائمًا كلمة التشبيه بمعنى التمثيل فهو المقصود.

قال: "وذلك أن الكلام في (الصفات) فرع على الكلام في (الذات)، يحتذي حذوه ويتبع في مثاله، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فتقول: إن له يدًا وسمعًا، ولا نقول: إن معنى اليد: القدرة، ومعنى السمع: العلم".

قلتُ: هذه قاعدة عظيمة في باب الأسماء والصفات لا يستطيع المخالف مخالفتها، ولا الانفكاك من لوازمها، فإنه لا بد أن يثبت ذات الرب -إذا كان منتسبًا لأهل الإسلام- وهو في الوقت نفسه يثبتها بلا تكييف، فسيلزمه ذلك في الأسماء والصفات، وكذا يلزم مَن أثبت بعضها بلا تكييف ولا تمثيل أن يثبت الباقي بلا فرق.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "فقلتُ له: وبعض الناس يقول: (مذهب السلف) أن الظاهر غير المراد، ويقول: أجمعنا على أن الظاهر غير مراد، وهذه العبارة خطأ؛ إما لفظا ومعنى، أو لفظا لا معنى؛ لأن الظاهر قد صار مشتركا(1) بين شيئين:

أحدهما‏:‏ أن يُقال‏:‏ إن اليد جارحة مثل جوارح العباد، وظاهر الغضب غليان القلب لطلب الانتقام، وظاهر كونه في السماء أن يكون مثل الماء في الظرف، فلا شك أن من قال‏:‏ إن هذه المعاني وشبهها من صفات المخلوقين ونعوت المحدثين غير مراد من الآيات والأحاديث‏ فقد صدق وأحسن؛ إذ لا يختلف أهل السُّنة أن الله -تعالى- ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، بل أكثر أهل السنة مِن أصحابنا وغيرهم يكفرون المشبهة والمجسمة‏(2)، لكن هذا القائل أخطأ حيث ظن أن هذا المعنى هو الظاهر مِن هذه الآيات والأحاديث، وحيث حكى عن السلف ما لم يقولوه، فإن ظاهر الكلام هو ما يسبق إلى العقل السليم منه لمن يفهم بتلك اللغة(3)، ثم قد يكون ظهوره بمجرد الوضع وقد يكون بسياق الكلام(4)، وليست هذه المعاني المحدثة المستحيلة على الله -تعالى- هي السابقة إلى عقل المؤمنين، بل اليد عندهم كالعلم والقدرة والذات، فكما كان علمنا وقدرتنا وحياتنا وكلامنا ونحوها مِن الصفات أعراضًا تدل على حدوثنا يمتنع أن يوصف الله -سبحانه- بمثلها، فكذلك أيدينا ووجوهنا ونحوهـا أجسامًا كـذلك محدثـة، يمتنـع أن يوصـف الله -تعالى- بمثلها‏.‏

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلتُ: (1) اللفظ المشترك: هو اللفظ المستعمل في معنيين أو أكثر، ليس بينهما تعلق، ففي اللغة أربعة أنواع مِن الألفاظ:

1- الألفاظ المترادفة: وهي ألفاظ مختلفة لمعنى واحد، كـ"أسد، وليث، وقسورة"، تطلق على معنى واحد، وهو الحيوان المعروف.

2- الألفاظ المتباينة: وهي ألفاظ مختلفة لمعانٍ مختلفة، كـ: "أرض، وسماء".

3- الألفاظ المتواطئة: وهي ألفاظ تدل على معان أو ذوات مختلفة بينها قدر مِن الاشتراك في الأذهان لا في الخارج، فلفظ: (أزرق)، يدل على لون السماء، ولون الثوب، ولون العين، فإذا قال إنسان: "زرقة" أو "أزرق"، فهم السامع معنى معينًا، لوجود قدر من الاشتراك في الذهن، ولكن كيفية كل ذات أو معنى في الخارج تختلف عن الأخرى، ولا يلزم وجود تعلق بينهما، ولا حتى في كيفية الوصف المشترك، والأسماء الحسنى، وكذا الصفات مع أسماء الناس هي مِن هذا الباب.

4- الألفاظ المشتركة: هي الألفاظ الواحدة التي تدل على معان مختلفة ليس بينها أي قدر مِن الاشتراك؛ لا في الذهن ولا في الخارج، إلا التشابه في اللفظ، كلفظ: (عين) تدل على عين الإنسان، وعلى الذهب، وعلى عين الماء، وعلى الجاسوس.

فكلمة الظاهر تستعمل في معنيين:

الأول: إثبات حقيقة الصفة.

الثاني: إثبات التمثيل والتشبيه.

فإذا قيل: الظاهر غير مراد، قيل: أتقصد بالظاهر المعنى الأول، فتعني بنفي إرادة الظاهر نفي الصفة؟ فإذا قال: نعم؛ كان معطلاً، وكان كلامه باطلاً. وإن قصد المعنى الثاني؛ قلنا: نعم، يجب نفي التمثيل والتشبيه، لكن يبقى أن يقال: إن الاستعمال الحادث للفظة: "الظاهر" في معنى التمثيل استعمال غير صحيح، وغير لائق بالوحي، فلا يجوز أن يُقال: إن الظاهر من نصوص الكتاب والسُّنة الكفر والبدعة والضلال (الذي هو التمثيل والتشبيه هنا)، لأن الله جعل القرآن كتابًا مبينًا يبين منه الحق (أي: يظهر)، ويبين الحق (أي: يوضح)، وليس يبين منه الباطل، ولا يظهر منه الضلال.

(2) لفظ التجسيم لم يرد نفيه في الكتاب والسُّنة، ولكنه أيضًا مثل لفظ التشبيه قد صار استعماله الأغلب في معنى التمثيل؛ فحيث ورد نفيه وتكفير القائل به عني به التمثيل الباطل المنفي في القرآن كمن يقول: إن معنى أن الله في السماء أنه يحل فيها بحيث تحيط به، ويقول: إن الله له يدٌ كأيدينا، وينزل إلى السماء الدنيا كنزول أحدنا مِن على كرسيه أو منبره، ونحو ذلك مِن الضلال، ولا شك أن تكفير هذا القائل بهذه المقولات يكون بعد إقامة الحجة، واستيفاء الشروط وانتفاء الموانع.

(3) هذا إقرار مِن شيخ الإسلام بأن هناك معنى يسبق إلى صاحب العقل السليم عند سماع لفظ ما: وهذا المعنى هو الظاهر، ويكون الظهور إما بأصل وضع الكلمة، أي: أن الناس وضعوا هذا اللفظ لهذا المعنى ابتداءً، ثم استعملوه في المعاني الأخرى بعد ذلك، فيكون الظاهر هو المعنى الموضوع أولاً، وهذا فيه نظر إذ لا يَثْبُتُ أو لا يستطيع أحد أن يثبت تاريخًا معينًا لاصطلاح الناس على استعمال كلمة في معنى معين، وإن كان شيخ الإسلام ينكر في كتاب الإيمان مسألة وضع اللغة أصلاً، والراجح أن الناس بالفعل يصطلحون على استعمال ألفاظ معينة في معانٍ معينة يستعملها بعضهم أولاً ثم تنتشر، واللغة تتجدد وتتغير، وقد ستعمل اللفظ في معنى، ثم يغلب استعماله على معنى آخر بحيث يسبق إلى الذهن السليم قبْل غيره مِن المعاني، فلا يصح أن يُقال إن الظهور يكون بمجرد الوضع، فَخُذ على ذلك مثالاً كلمة: "على الهواء"، إذا سمعها أحد في زماننا هذا عن برنامج معين أنه على الهواء مباشرة، أو مباراة، أو مناظرة، أو محادثة، لفهم منها مباشرة أنه برنامج يُذاع في مذياع أو تلفاز في اللحظة نفسها، مع أن وضع كلمة الهواء في الأصل وكذا كلمة (على) ليست لهذا المعنى، ولذلك نقول: إن الظهور يكون بالاستعمال الأغلب أو بالسياق، وليس بمجرد الوضع، وإن كنا لا ننكر أصل الوضع.

(4) سياق الكلام هو أكبر الأسباب التي تجعل معنى معينًا يسبق إلى الذهن، فسياق قوله -تعالى-: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء:29)، يَفهم منه كل سامع أنه نهي عن البخل وعن التبذير، وليس أنه نهي عن ربط اليد في العنق، وليس تحريمًا لبسط أصابع اليد ومدها؛ فليس صحيحًا إذن أن نقول: إن ظاهر قوله -تعالى-: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) هو تحريم ربط اليد في العنق، بل هذا كلام باطل، لا يشك أحد عاقل في بطلانه، بل الظاهر -مِن السياق- هو النهي عن البخل والشح، ثم عن التبذير، وإذا أضفنا إلى ذلك قرينة قوله -تعالى-: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) (الإسراء:30)، قطعنا بأن هذا هو المعنى المراد دون غيره، وسواء أقلنا: إن بسط اليد مجاز عن التبذير، أم قلنا: هو حقيقة الكلام أو ظاهره؛ فلا مشاحة في الاصطلاح؟ لأن المجاز إذا استوفى أدلته، كان في الحقيقة هو التفسير الصحيح، وبيانًا لمراد المتكلم.

ونكمل في مقالات قادمة -إن شاء الله-.