الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 19 سبتمبر 2016 - 18 ذو الحجة 1437هـ

الرجل الأمين والخشبة (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

الغرض من الموعظة:

الوقوف على الدروس المستفادة من قصة الرجل الذي استلف من صاحبه ألف دينار، وقضاها عن طريق الخشبة.

المقدمة:

- تمهيد بحكاية القصة إجمالاً، وأنها مِن النوع الذي يحثُّ على فضائل الأعمال.

- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ: (رَجُلا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ. قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً. قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلاً، فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ.  ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إلى بِشَيْءٍ، قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا) (رواه البخاري معلقًا مجزومًا به، ووصله أحمد والنسائي بسند صحيح).

- تمهيد للدروس المستفادة: بأن هذا هو القصص الحق الذي ينفع الناس في دينهم ودنياهم، يتعلمون فيه الأحكام الشرعية والمعاني الإيمانية، فيقتدون بأصحابها؛ بخلاف القصص الإعلامي الهابط الذي يشجع على الرذيلة والجريمة والانحراف.

الدروس المستفادة من القصة

1- جواز الاستدانة والقرض:

- الشاهد من القصة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رَجُلا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ).

- الإقراض نوع من تفريج كروب الناس: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (رواه مسلم).

- رغَّب الله فيه أعظم الترغيب: قال الله -تعالى-: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) (البقرة:245).

- جزاء مَن أقرض الناس وأحسن إليهم: في الحديث عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (تَلَقَّتِ الْمَلائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَقَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: لا، قَالُوا: تَذَكَّرْ، قَالَ: كُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ، وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ الْمُوسِرِ، قَالَ: قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: تَجَوَّزُوا عَنْهُ) (رواه مسلم).

2- مشروعية الإشهاد والكفالة:

- الشاهد على ذلك هو طلب صاحب المال للشهداء أو الكفيل: (فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ. قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً. قَالَ: صَدَقْتَ).

- الكتابة والإشهاد والكفالة تضمن الحقوق من الضياع: قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) (البقرة:282)، وقال: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) (البقرة:282)، وقال: (وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا) (البقرة:282)، وقال -تعالى- عن يوسف -عليه السلام-: (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) (يوسف:72).

- جواز تركها عند أمن الجحود والخطأ: قال الله -تعالى-: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) (البقرة:283).

3- أثر التوكل على الله في تحقيق المراد:

- الشاهد هو عظيم توكل المستلف: (فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلاً، فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا).

- وقفات تأمل تظهر عظيم توكله: "كيف سخَّر الله البحر لحمل الخشبة وتوجيهها إلى جهة معينة وعدم غرقها أو أخذها من بعض السفن، وكيف سخر صاحب المال للخروج في وقت الوصول، وكيف سخره لأخذها ونشرها و... و... !".

- هذه عاقبة التوكل الصحيح على مَن له الكمال في صفاته: قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق:3).

4- مشروعية التقاط اللقطة:

- الشاهد هو حكاية النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ الرجل للخشبة من البحر: قال -صلى الله عليه وسلم-: (فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا).

- الترخيص في الانتفاع باللقطة اليسيرة من غير تعريف: رُوي عن جابر -رضي الله عنه- قال: "رَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْعَصَا وَالسَّوْطِ، وَالْحَبْلِ وَأَشْبَاهِهِ، يَلْتَقِطُهُ الرَّجُلُ يَنْتَفِعُ بِهِ"، وعليه العمل عند أهل العلم.

- التعريف والحفظ إذا كانت كثيرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلا فَشَأْنَكَ بِهَا) (متفق عليه).

5- فضل الأمانة والوفاء بالعهود:

- هذا أعظم الدروس؛ لأنه المغزى الرئيس من القصة.

- مدح الله الأمانة وأهلها؛ فقال -تعالى- عن الأنبياء: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (الشعراء:107)، وعن جبريل -عليه السلام-: (نزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ) (الشعراء:193)، وعن الصالحين: (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:8).

- أمر برد الأمانات إلى أصحابها: قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء:58).

- سيد الأمناء يبقي على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في الهجرة؛ ليرد الأمانات التي كانت عنده لأهلها المشركين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

- رهَّب الشرع مِن الخيانة وعدم الوفاء والمماطلة: قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة:1)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ, وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ, وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) (متفق عليه).

- المماطلة وعدم الوفاء من أخلاق اليهود والمنافقين: قال الله -تعالى-: (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) (آل عمران:75).

- اصدق وسيقضي الله عنك "وصول الخشبة بالمال": قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ) (رواه البخاري).

فاللهم اقض الدين عن المدينين، واكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.