الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الجمعة 09 سبتمبر 2016 - 8 ذو الحجة 1437هـ

لبيك اللهم لبيك

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فوسط تلبية الملايين مِن حجاج بيت الله الحرام "لبيك اللهم لبيك"، ونحن نسمع أصواتهم؛ تتجدد في القلب حاجة ضرورية أشد مِن حاجة البدن إلى الطعام والشراب؛ حاجته إلى إجابة أمر الله، حتى وإن لم يكن حاجًّا فهو يحتاج إلى هذه التلبية، ولقد ورد في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في قيام الليل وهو حلال "لبيك وسعديك"، وأظن أنه مِن ذلك أخذ الإمام أحمد -رحمه الله- جواز التلبية للحلال.

فحول معنى التلبية التي نحتاجها أعظم احتياج نتذكر هذه المعاني الإيمانية:

قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لبيك وسعديك" هذه التلبية -وهي تلبية مِن غير المُحْرِم- لا تختص بحالٍ أو زمان أو مكان، وهي كنز عظيم يفجـِّر في القلب ينابيع الحب والشوق إلى الله -سبحانه وتعالى-، فإن الإنسان الصغير الضعيف المحتاج الذي لا يشغل مِن الزمان والمكان شيئًا يذكر، بل وجوده كالهباءة المنثورة، إذا استشعر أن الله -سبحانه- هو الخالق، العليُّ الكبير، العظيم، الغني، الأول الآخر، الظاهر الباطن، القوي العزيز يريده ويناديه -على ألسنة رسله وفي كتبه المنزلة- لعبادته ومحبته، واصطفاه مِن بيْن خلقه لنوع خاص مِن العبودية؛ إذ أوجده في وسط المخالفات ليعرفه ويعبده، فالعبد في نفسه مخالفات: شهوات ورغبات محرمة، وحوله مخالفات: شياطين الإنس والجن وأعمالهم، ومكرهم وكيدهم، وهو -سبحانه- اجتباه مِن ذلك، واختصه بأعلى أنواع التكريم، وأمره ونهاه، ودعاه إليه في دار السلام، وهداه الصراط المستقيم.

فأنتَ أيها المؤمن كنتَ مرادًا حتى تكون مريدًا مخلصًا، وأُخْلِصْتَ فَأَخْلصتَ، كنتَ قبل وجودك مِن أهل قبضة اليمين، وعرفك الشيطان فاستثناك مِن الإغواء حين قال: (فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (ص:82)، فأنتَ مِن المخلـَصين حتى تكون مِن المخلِصين وربك يناديك.

فما أجلّ أن تقول، وما أعظم أن تقول، وما أحلى أن تقول: "لبيك" أنا يا رب ذاهب إليك، مجيب لأمرك بقلبي وبدني (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الصافات:99)، هل تحاول استشعار معنى (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي)، ومعنى الهجرة بالقلب والسفر إليه في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) (رواه البخاري)، و(الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ) (رواه مسلم)؟! فلماذا كانت العبادة في الفتن تماثل ثواب الهجرة إليه -صلى الله عليه وسلم-؟! لأنها هجرة بالقلب إلى سنته وطريقته في عبادة الله، فهل نلج وندخل باب هذا الفضل العظيم في زمان الفتن؟ فرصة عظيمة أن نكون مِن المهاجرين، فهل نغتنمها؟! "لبيك وسعديك".

وليست الإجابة لله -سبحانه- مرة واحدة ثم تنقطع، بل هي إجابة بعد إجابة، وإقامة بعد إقامة على طاعته، ومساعدة بعد مساعدة لأمره، والمقصود بالمساعدة: الكونُ في أمره وخدمته، وليست بمعنى المعاونة التي في حق البشر، بل الإسعاد معناه: أن يكون في الخدمة والطاعة، وإن كان لفظ الخدمة لم يَرِد في الكتاب والسنة، فنختار بدلاً عنه لفظ العبادة والطاعة والانقياد لأمره -سبحانه- مرة بعد أخرى، أي هو قد أعلن الإجابة وواظب عليها، وأقر بالطاعة وامتثال الأمر وواظب على ذلك، قال: آمنتُ بالله ثم استقام، كما أخبر -سبحانه- عن عباده المؤمنين: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30)، وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

وهذه التلبية يحتاجها المؤمن دائمًا؛ ولذا شُرعت في هذا الدعاء كما شرعت في الحج والعمرة، وقد قال الإمام أحمد: "لا بأس بالتلبية للحُلال"، وهذا الحديث دليل على مشروعية ذلك، وهي مِن الأذكار العظيمة التي تعرِّف العبد حقيقة السلعة التي معه، روحه ونفسه، فليضن بها أن يبيعها بالثمن البخس، وشعور العبد بأن الله أراده؛ يجعله يكاد يذوب حبًّا وشوقًا لله -سبحانه-، وانقيادًا وذلاً، يجعله مجيبًا على الفاقة، أي: مجيبًا لأمره -سبحانه- مستشعرًا شدة فقره وفاقته إلى الله في هذه الإجابة، أي: يحقق (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) بالإجابة (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بالفاقة والفقر إلى الله إلهًا معبودًا محبوبًا، فأي منة أجل مِن هذا؟! وهل نستحق كل هذا العطاء؟! إنما هو محض الجود والكرم والمن.

قال ابن القيم -رحمه الله-:

فـما كـل عـيـن بالحبـيـب قـريرة          ولا كل مَن نودي يجيب المناديا

قرة العين كناية عن الراحة والسرور، والطمأنينة التامة وعدم التطلع إلى ما سوى المحبوب، فليست كل العيون قريرة بالله -سبحانه-، بل إنما خص الله -سبحانه- بذلك خواص خلقه الذين وجدوه؛ أي: وجدوا حبه وقربه والطريق الموصل إليه حتى تكون نهايته النظر إلى وجهه في الدار الآخرة، فمن قرت عينه بالله إذا وجده فليحمد الله على أجلِّ نعمة، ومَن أجاب داعي الله، فليدرك قدْر هذه المنة؛ فليس كل أحد يجيب المنادي والداعي إلى الله، وأنت أيها المؤمن أجبت، ووجدت وتلذذت بالعبادة وذقت طعم الإيمان، فاللهم نسألك مزيد فضلك ورحمتك، وحبك ورضوانك ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.

ومَن لا يـجـب داعـي هـداك فــخــلـه                يجب كل مَن أضحى إلى الغي داعيا

وقل للعـيـون الرمـد: إيـاك أن تــري               سنا الشمس فاستغشى ظـلام اللياليا

وسـامـح نـفـوســًا لم يهـبهـا لحبهـم                ودعـهـا وما اختارت ولا تك جافــيـًا

وقـل لـلـذي قـد غـاب: يكـفي عقوبة                مغيـبـك عن ذا الشأن لو كنت واعيًا

ووالله لـو أضـحـى نـصـيـبـك وافـرًا                 رحــمـت عــدوًّا حــاسـدًا لـك قـالـيـًا

ألـم تـرَ آثـار الـقـطــيـعـة قــد بـــدت                 عـلى حـاله فـارحمه إن كـنت راثـيـًا

خـفـافـيـش أعشاها النهار بـضــوئه                ولاءمـهـا قــطـع مـِن الـلــيــل بـاديـا

فجالت وصالت فيه حتى إذا الـنـهـار                بـدا اسـتـخــفــت وأعــطــت تـواريـا

إذا ظلمة الـليـل انـجـلـت بـضـيـائـهـا                يـعــود لـعــيـنـيـه ظـــلامـًا كـمـا هـيـا

فضن بـها إن كـنـت تـعـرف قــدرهــا               إلــى أن تــرى كــفـؤا أتـاك مـوافــيـا

فـمـا مـهـرها شيء سوى الروح أيها              الــجـبان تأخـر لست كـفـؤًا مـسـاويـا

فـكـن أبـدًا حـيـث اسـتـقـلـت ركـائــب               الـمـحـبـة فـي ظـهـر الـعـزائـم سـاريا

وأدلـــج ولا تـخــش الــظــلام فــإنــه               سـيــكفـيـك وجه الحب في الليل هاديا

وســقـهــا بــذكــراه مـــطــايـــاك إنـه               سيـكـفـي المطايا طـيـب ذكـراه حـاديـا

وعــدها بـروح الـوصل تعطيك سيرها              فما شئت واسـتـبـق الـعـظـام البـوالـيـا

وأقـــــدم فـــإمــا مــنـيــة أو مــنـــيــة              تـريـحـك مـن عـيـش بـه لـسـت راضيًا

فـمـا ثـم إلا الــوصـل أو كــلـف بـــهـم              وحـسـبـك فــوزًا ذاك إن كـنـت واعـيـًا

أمـا سـئمـت مـن عـيـشـهـا نـفـس والـه            تـبـيـت بـنـار الـبـعـد تـلـقـى الــمـكـاويـا

أمـــا مــوتــه فـــيـهــم حـــــيــاة وذلــة             هـــو الـعـز والـتـوفـيـق ما زال غـالـيـًا

أما يـسـتـحـيـي مَن يـدَّعـي الحـب باخلاً            بـمـا لـحـبـيـبٍ عـــنـه يــدعـــوه ذا لـيـا

أمـا تـلـك دعـوى كــاذب لـيـس حـــظـه             مـِن الــحــــب إلا قــــولــه والأمــانــيــا

ولعله أن يكون لنا شرح لهذه القصيدة الرائعة في موضع آخر إن شاء الله.