الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 23 أغسطس 2016 - 20 ذو القعدة 1437هـ

نظرية "صدام الحضارات" والمشاريع المنبثقة عنها (2)

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قدَّمنا في المرة السابقة تمهيدًا تاريخيًّا عن الصراع الحضاري، ونتعرض في هذه المرة بصورة مختصرة لنظرية "صدام الحضارات" التي يتبناها الغرب الآن، وبيان لأهم المشاريع التي دشنها الغرب متأثرًا بهذه النظرية، والتي تمثِّل أهمَّ الأخطار التي تهدد العالم الإسلامي بصفة عامة "والصحوة الإسلامية بصفة خاصة".

1- نظرية "صدام الحضارات":

كان معظم فلاسفة التاريخ يدرسون الحضارات التي ازدهرت ثم ضعفت -أو تلاشت- معتبرين أن هناك دورة حياة لكل حضارة تشبه حياة الإنسان؛ طفولة ثم شبابًا، ثم شيخوخة، ثم موتًا، ولكن الفيلسوف الألماني "كانط" قد أصَّل لنظرية، هي أن الحضارة الإنسانية هي سلسلة واحدة، وأن كل حضارة تنتهي تسلِّم الراية لحضارة أفضل في تاريخ الإنسانية، ثم جاء "هيجل" واعتبر أن الحريات هي المعيار الذي يُقاس به التقدم، ورأى "هيجل" أن أوروبا في عصر النهضة تمثِّل قمة الرقي الإنساني عبر التاريخ من جهة أن المذهب البروتستانتي يمثل قمة التطور الديني، وأما سائر الأمور... فالتفوق فيها واضح، وأصَّل "هيجل" لقاعدة، هي أن: "الحضارة تتجه من الجنوب لتستقر في الشمال"، ومن الواضح أن "هيجل" وصف وضع أوروبا الديني والسياسي، بل والجغرافي، واعتبره هو غاية الكمال الإنساني!

ثم جاء "فوكوياما" المفكر الأمريكي الياباني الأصل، وفي نشوة انتصار أمريكا في حرب الخليج 1992م ليقدِّم أطروحته عن "نهاية التاريخ"، ويعني بها توقف حركة التطور في الحضارة الإنسانية عند محطة الحضارة الغربية الأمريكية تحديدًا؛ لكونها قد بلغت الكمال!

وقد رد عليه "هنتنجتون" في أطروحته: "صدام الحضارات"، وهو يلتقي معه في أن الحضارة الغربية "والطبيعة الأمريكية منها تحديدًا" هي غاية التطور في الحضارة الإنسانية، ولكنه يخالفه في مدى "سلمية" و"سلامة" الحفاظ على تفوقها، وقرر ضرورة أن تدافع تلك "الحضارة الكاملة" عن نفسها تجاه الحضارات الأخرى التي رفض أصحابها عنادًا منهم -من وجهة نظره- الذوبان في هذه الحضارة، وخص بالذكر الاتحاد السوفيتي "الذي قد انهار بالفعل"، والعالم الإسلامي الذي كان -وما يزال- يشهد صحوة إسلامية مباركة.

ومهما يقال مِن خلافات فلسفية حول هذه النظرية؛ فإن القدر المشترك بين كل هذه الأطروحات هو وجوب ذوبان جميع الحضارات في الحضارة الغربية، غير أن "فوكوياما" يرى حتمية وقدرية هذا الذوبان، بينما يؤكد "هنتنجتون" على أن الحضارة الغربية هي المكلفة باتخاذ تدابير الإذابة، ومِن الطبيعي أن تستخدم النظرية الأولى لتصدير الهزيمة النفسية للآخرين, بينما يعنى الساسة عمليًّا بالنظرية الثانية، ويقومون بما يستطيعون من تدابير تضمن ذوبان المسلمين في حضاراتهم الغربية، وقد تمخض هذا عن عدة مشروعات جاري تطبيقها على أرض الواقع.

ومِن أبرزها:

1- تقرير مؤسسة "راند"، وما أسفر عنه من توصيات، أبرزها: "دعم الإسلام الليبرالي!".

2- مشروع الشرق الأوسط الكبير.

3- مشروع "الفوضى الخلاقة".

2- تقرير مؤسسة "راند" 2005م:

مؤسسة "راند" هي أحد أهم المراكز البحثية التي تمد صانعي القرار الأمريكي بالرؤى الإستراتيجية، وهي تعتني بشئون الشرق الأوسط عمومًا "والجماعات الإسلامية خصوصًا" (ومِن الجدير بالذكر: أن مؤسسة راند لها فرع نشط في قطر!).

وتقرير مؤسسة "راند" ذائع السيط، هو التقرير الذي صدر عام 2007م؛ إلا أن الفكرة الأصلية لهذا التقرير جاءت في تقرير 2005م بعنوان: "الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء - الموارد - الإستراتيجيات".

وقد قسَّم هذا التقرير المسلمين إلى أربع فئات:

1- الأصوليون: "وهم مَن يتمسكون بالتفسير النصي، ويعتقدون سمو الحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية، ويقومون بالمواجهة المسلحة مع الغرب"، ومِن الواضح أن التقرير تعمد استعمال ألفاظ: "السلفيون - الوهابيون - تنظيم القاعدة" على أن مدلولاتها مترادفة أو متقاربة، وأنه يريد استثمار حالة الحنق الغربي على "تنظيم القاعدة"؛ لكي يوجِّه الساسة إلى نفس درجة العداء لكل مَن انتمى إلى المدرسة النصية "السلفية" وإن لم يحمل سلاحًا!

كما يتضح الإلحاح على وصف السلفية بالوهابية رغم أن الأدق أن تقول: إن الوهابية هي حركة تجديد سلفية؛ "لأن السلفية أرحب مِن حيث الفكر والتاريخ والجغرافيا"، لكن يصر تقرير "راند" على حصار السلفية داخل قالب يسهل الزعم بأنه كان وليد تجربة تاريخية ولَّى زمانها!

2- القسم الثاني: "المسلمون التقليديون" مثل: الطرق الصوفية، ويوصي بضرورة دعمها، ولكن ليس دعمًا مطلقًا، وإنما بمقدار ما يستطيعون إيقاف تقدم الفكر الأصولي، وبلغ الأمر بالتقرير أنه أوصى بدعم المذهب الحنفي على حساب المذهب الحنبلي على اعتبار أن التقرير يفترض أن جميع الأصوليين حنابلة!

3- المسلمون الحداثيون.

4- المسلمون العالمانيون.

والفرق بيْن النوعين الأخيرين يمكن استخلاصه من كلام صاحب كتاب "الأصولية في العالم العربي"، والذي تحدث فيه عما أسماه: "العالمانية الانتقائية"، والتي وُصفت بها أنظمة عدة دول، مِن أبرزها: "مصر", فالحداثيون وفق هذا التقسيم عالمانيون يرفضون بعض مظاهر العالمانية التي تضعهم في حرج شديد مع مجتمعاتهم من الناحية الأخلاقية أو الدينية.

وبصفة عامة يوصي تقرير "راند" 2005م بالدعم المطلق للعالمانيين، والدعم المحسوب لكل مِن الحداثيين والتقليديين بهذا الترتيب، وبالتصدي الشامل للأصوليين! ومِن المفيد أن ننبِّه أن السعي إلى فك الارتباط الذهني بين "السلفية كفكر" وبيْن "فكر القاعدة" وما يعرف بـ"السلفية الجهادية" قد يكون مفيدًا في تخفيف حدة المواجهة مع الأخذ في الاعتبار أن القوم لا يرضيهم إلا الأخذ بالعالمانية التامة، بل ربما لا يشفع ذلك حتى تكون عالمانية على خلفية نصرانية، وحالهم مع "تركيا" خير شاهد على ذلك.

3- تقرير مؤسسة "راند" 2007م:

أصدرت مؤسسة "راند" تقريرًا آخر عام 2007م تحت عنوان: "بناء شبكات مسلمة معتدلة".

ويمكن تلخيص أهم ما جاء فيه بالآتي:

1- ضرورة اتباع سياسة احتواء التيار الأصولي عن طريق دعم التيار المعتدل.

2- يجب أن يكون مفهوم الاعتدال وفقًا للرؤية الأمريكية، ومتعلقًا على وجه الخصوص بالموقف من "الأقليات الدينية - المرأة - الحريات"، واعتبار الرؤية الأمريكية لكل هذه الأمور هي الإجابة النموذجية؛ لا سيما وأنها معدودة "محافظة" مقارنة بالطرح الأوروبي لهذه القضايا! وقد وضع التقرير عدة أسئلة كاختيار للاعتدال، وهي ما سنبينه في الفقرة الآتية.

4- مقياس مؤسسة "راند" للاعتدال:

1- هل يتقبل الفرد أو الجماعة العنف أو يمارسه؟ وهل تقبَّله أو مارسه في الماضي؟

2- هل تؤيد الديمقراطية؟ وهل تعرف الديمقراطية بمعناها الواسع الذي يشمل حريات الأفراد؟

3- هل تؤيد حقوق الإنسان المتفق عليها دوليًّا؟

4- هل لديك أي استثناء على ذلك؟

5- هل تؤمن بحق تبديل الدين؟

6- هل تؤمن بوجوب تطبيق الشريعة لاسيما الشق الجنائي "الحدود"؟

7- هل تؤمن بوجوب تطبيق الشريعة في الشق المدني؟ وهل يمكن حينئذٍ السماح لمعاملات مدنية غير ملتزمة بالشريعة لمن يرغب؟

8- هل تؤمن بوجوب حصول الأقليات الدينية على نفس حقوق المسلمين؟

9- هل تؤمن بجواز تولي الأقليات الدينية المناصب العليا في الدولة؟

10- هل تؤمن في حق الأقليات الدينية في بناء دور العبادة؟

11- هل تقبل بنظام تشريعي غير مذهبي؟

فالتقرير فيما عدا هذا يتحدث عن أمور صارت واقعًا ملموسًا من الاعتماد على "الإعلام، وجمعيات المرأة، وجمعيات حقوق الإنسان؛ فضلاً عن دعم كل مَن يبتعد عن الأصولية، على أن يزداد الدعم كلما اقترب مِن العالمانية التي يكون دَعم أصحابها غير محدود؛ باعتبارهم النموذج المراد أن يسوِّق له في نهاية المطاف!

5- مشروع الشرق الأوسط الكبير:

وردت فكرة هذا المشروع في كتاب "بريجينسكي" أحد أبرز مستشاري الرئيس الأمريكي "جيمي كارتر" في كتاب له بعنوان: "بيْن جيلين".

وخلاصة الفكرة: أن الغرب بعد أن سوَّق لنا مشروع الدولة القومية؛ ليتمكن مِن خلالها مِن تفتيت الخلافة إلى عدة دول قومية -(وكما أشرنا -سابقًا- أن الفكرة بدأت لتقسيم الخلافة العثمانية إلى دولة عربية ودولة تركية، مع إلحاق دول الشمال الأفريقي بأوروبا؛ إلا أنها سرعان ما تغيرت عبر اتفاقية "سايكس - بيكو" إلى إعادة تقسيم قبل خروجها إلى النور باستقطاع دولة إسرائيل: سوريا ولبنان، وكانت الجزيرة العربية خارج الحسابات الدولية بطبيعة الحال)- فإن الجديد في فكرة "بريجينسكي" هو: تسويق فكرة "الدولة - الأمة"، أي: الدولة التي جميع شعبها ينتمي إلى عرق واحد، ودين واحد، أي استنساخ صورة دولة إسرائيل ليصبح جميع جيرانها متقاربين معها "في المساحة - عدد السكان" بعد ما يفصل لكل مجموعة تتفق في الدين والعرق دويلة أو "كانتون" -على حد تعبير بريجينسكي-.

وأما نقطة العسل التي يمرر بها هذا المشروع، فهي: حق إمكانية التعاون الكونفدرالي بين هذه الكانتونات، وبالطبع فإن الضغوط الدولية سوف تمنع وجود هذا الاتحاد أو اتجاهه إلى الكيانات التي تكون محققة لأهداف السياسة الغربية!

ومن الجدير بالذكر: أن "بريجينسكي" ما زال على قيد الحياة، وأنه صرَّح بتوقعه أن تُسهِم "ثورات الربيع العربي" في تطبيق فكرة "الكانتونات" التي روَّج لها في السبعينيات، وصرَّح بأن مرحلة الاتحادات الكونفدرالية لن تأتي إلا بعد حروب حول القيادة، ربما تكون إحداها بين إيران وإسرائيل، وأخرى بين مصر والسعودية، وأن مِن ضمن الاتحادات المتوقعة: اتحاد كونفدرالي بين إسرائيل وفلسطين.

6- خرائط التقسيم المتوقعة:

يُراجَع الفصل الثالث من كتاب "الاحتلال المدني"، فقد جمع عددًا مِن النقول في هذا الباب، مع التنبيه على أننا لا نقر المؤلف على كل ما أورده في كتابه من تحليلات.

و قد نقل الكتاب وثيقة " وثيقة برنارد لويس " (أحد مروجى هذا المشروع) نقلا عن  صحيفة المستشار العراقية(عدد 18 فبراير 2013م) و جاء فيه تصور للوضع الذى يمكن أن تول غليه دول المنطقة و كان ملخص ما ذكره كالتالى:

أولاً: بالنسبة لمصر، تُقسَّم مصر إلى 3 دويلات:

دولة مسيحية وعاصمتها الإسكندرية، ودولة إسلامية عاصمتها القاهرة، ودولة النوبة وعاصمتها أسوان.

ثانيًا: السودان:

دولة الجنوب المسيحي، ودولة الشمال الإسلامي، ودولة النوبة بالتكامل مع النوبة المصرية "إقليم دارفور".

وفيما يخص دول المغرب العربي... فحسب مشروع "لويس" فقد قُسِّمت هذه الدول إلى:

- دولة الأمازيغ وتمتد بعد بلاد النوبة غربًا إلى الجزائر

- دولة البوليساريو.

- وإعادة تشكيل الدول المتبقية: كالمغرب، والجزائر، وتونس، وليبيا.

أما دول الخليج العربية فستصبح كالآتي:

- الدولة الشيعية: وتضم جنوب العراق والساحل الغربي لإيران، والشرقي للسعودية المطل على الخليج العربي.

- الدولة الإسلامية المحايدة: وتضم مكة المكرمة والمدينة، واقتطاع الجزء الشمالي الغربي إلى اليمن، وإبقاء ما تبقى من الجزيرة العربية للأردن الكبير، والجزء الجنوبي الغربي إلى اليمن، وإبقاء ما تبقى من الجزيرة العربية إلى إقليم السعودية المستقل.

أما إيران: ، فستخسر جزءًا كبيرًا من أراضيها لصالح أذربيجان الموحدة وكردستان الحرة والدولة الشيعية العربية وبلوشستان الحرة، لكنها ستكسب المحافظات المحيطة بـ"هرات" في أفغانستان الحالية، وهي منطقة ترتبط بصلة وثيقة مع بلاد فارس تاريخيًّا ولغويًّا.

وفي الواقع ستصبح إيران دولة للعراق الفارسي مرة أخرى، مع بقاء السؤال الصعب المتمثل فيما إذا كانت ستحتفظ بميناء بندر عباس أو تتنازل عنه للدولة الشيعية العربية؟!

إن ما ستخسره أفغانستان لصالح الدولة الفارسية غربًا، ستكسبه من جهة الشرق حيث سيعود اتحاد القبائل القاطنة شمال غرب باكستان مع إخوانهم في أفغانستان.

أما باكستان :فستفقد منطقة البلوش لصالح بلوشستان الحرة، وباكستان الطبيعية التي ستبقى في نهاية الأمر فستوضع بكاملها شرق نهر السِند، ما عدا نتوء متجه للغرب بالقرب من كراتشي.

أما دولة الإمارات العربية المتحدة: فسيكون لها مصير مختلط كما هي حالها الآن، فبعض الإمارات قد تنضم للدولة الشيعية العربية مما يعطيها المزيد من السيطرة على الخليج العربي، وبذلك يُرجَّح أن تكون الدولة الشيعية العربية عامل توازن مقابل الدولة الفارسية أكثر من احتمال أن تكون حليفًا لها "ويوجد عدة تصورات أخرى تدور حول هذه الفكرة".

7- "الفوضى الخلاقة" أفضل وسيلة للتقسيم:

الفوضى السياسية تأتى عن طريق إحداث فراغ مفاجئ في السلطة السياسية أو في قوة عسكرية؛ مما يوقع المجتمع في فوضى، والتي تعني أنهارًا مِن الدماء، واختلالاً في موازين الأمن في المجتمع.

ولكن متى تكون الفوضى "خلاقة" على النحو الذي عبرَّت به "كونداليزا رايس"؟!

في الواقع: فإنه لا يُتصور أن تكون الفوضى "خلاقة"؛ إلا إذا كانت مبرمجة قبل إحداث الفوضى، وأوضح مثال على ذلك: "قيام دولة إسرائيل"، والذي جاء نتيجة فراغ مفاجئ في السلطة بإلغاء بريطانيا انتدابها في فلسطين، وبالطبع كان اليهود قد أعدوا السلاح والرجال، وكانوا على علم مسبق بموعد الفراغ المفاجئ، فكانت نتيجة تلك الفوضى هو قيام دولة إسرائيل، بل إن هبة سبعة جيوش عربية غير مستعدة للحدث لم تكن كافية لتغيير البرمجة المسبقة لتلك الفوضى!

ويمكنك أن تعيد "نفس السيناريو" بصورة أو بأخرى في العراق؛ حيث تولت أمريكا مسئولية القضاء على الجيش العراقي دون إيجاد بديل حقيقي؛ فكانت الغلبة للميليشيات الشيعية، وأما السيناريو الليبي والسوري: فهو متأرجح حتى الآن لصعوبة البرمجة، ولكن مِن الواضح أن مَن يدير العملية حريص على عدم الوصول إلى نقطة الفوضى الشاملة؛ لأنه لم يرتب الأوراق جيدًا لمن يريده أن يملأ الفراغ.

8- هل قَبِلت بعض الحركات الإسلامية أيًّا مِن هذه المشاريع الثلاثة: "راند - الشرق الأوسط الكبير - الفوضى الخلاقة"؟!

أولاً: "راند":

مِن الواضح أن عددًا لا بأس به قد قدَّم الإجابات النموذجية للاعتدال الأمريكي "الراندي"، وهؤلاء نوعان: نوع صار يرى هذا دينًا، وأصبح ينافح عنه فعلاً. ونوع يوافق على هذه الأطروحات مِن باب التكتيك.

وقد نبَّه تقرير "راند" على هذا النوع؛ ومِن ثَمَّ فإن الحصار الإعلامي وحده كافٍ لتحويل هذا التكتيك إلى إستراتيجية إجبارية لمن دخل فيه، وثمة تيارات أخرى: كالتيار القطبي لا ترى غضاضة مِن القبول بمعطيات "راند" مِن باب أنها تلتقي مع فكرة "سيد قطب" حول إمكانية عودة مرحلية الأحكام أو تقرير أن دعوة الناس إلى الأحكام قبل دعوتهم إلى العقيدة هو مِن قبيل استنبات البذور في الهواء!

ومِن هنا يحل التناقض الظاهري في اشتمال بعض الاتجاهات الإسلامية على جناح ليبرالي وآخر قطبي، وذلك أن كلا الفريقين يمكن أن يتفقا ظاهريًّا على الأداء الليبرالي، ويبقى الخلاف بينهما -بما في القلب- بين مَن يعتنق هذا المذهب وبين مَن يقبل به مِن باب أن درجة إيمان الناس الآن يناسبها هذا التطبيق المشوه للإسلام إن لم يكن أقل!

ثانيًا: الشرق الأوسط الكبير:

توجد تصريحات لـ"أردوغان" بقبول شرق أوسط كبير، كما توجد مواقف لبعض الدول التي بلغت مِن الصغر حدًّا لا تصل حد التقسيم يبدو منها أنها تقوم بدور الترويج لهذا المشروع، كما توجد مؤشرات لقبول "إيران" بهذه الفكرة، ويروَّج أن بعض الجماعات الإسلامية قد قَبِلت بها؛ وإذا صح هذا فسوف يكون هذا كله تكرارًا لمأساة "الشريف حسين والثورة العربية".

وموقف "إيران" قد يكون واضحًا في أن المشروع يعطيها أجزاءً مِن باكستان وأفغانستان تضم إلى جزء من جنوب العراق وشرق السعودية؛ لتكون دولة شيعية عربية، ويبدو أن "إيران" تضمن بصورة كبيرة حال تطبيق هذا المشروع إتمام الاندماج الكونفدرالي بينها وبين الدولة الشيعية العربية المزمع إنشاؤها، في حين يبدو أن "تركيا" والجماعات المتفقة مع "أردوغان" في التوجه يبتلعون طُعمًا خطيرًا بشأن الموافقة على السماح بإجراءاتٍ مِن شأنها أن تزيد مِن تقسيم العالم الإسلامي على "أمل الوحدة الكونفدرالية"؛ لتكون بديلاً عصريًّا للخلافة!

وطرْح الاتحاد الكونفدرالي بيْن البلاد الإسلامية كبديل للخلافة قد يُعتبر خطوة للإمام ما لم يكن مشروطًا بمزيد مِن التقسيم قبله، وأما القبول بالتقسيم أو التهيئة له عن طريق دعم "الفوضى الخلاقة" على أمل إعادة الاتحاد؛ فهو نوع مِن "قتل عشرة عصافير  في اليد انتظارًا لعصفور في يد الغير!".

9- السعي وراء "الفوضى الخلاقة" طلبًا لإصلاح الأوضاع في البلاد الإسلامية:

أجمعت كتب السياسة الشرعية على مراعاة "المصالح والمفاسد" في الإنكار على الحكام المسلمين مهما بلغ فسادهم؛ لا سيما في قضية "الخروج على الحاكم الفاسق"، والقاعدة التي يقررها العلماء هي عكس قاعدة: "الفوضى الخلاقة" تمامًا، ومنهم "الجويني" في كتابه: "الغياثي", ومع هذا حاول بعض المتأثرين بهذه النظرية أن يَنسب إليه القول بها -وقد خصصنا ملحقًا للرد عليه-!

والذي يهمنا هنا أن نعرِّج بسرعة على الاستفادة من دروس التاريخ، وإذا استصحبنا أن "الفوضى" لن يستفيد منها إلا الذين أعدوا لها العدة "وقد يكونون في بعض الأحوال جيوشًا أجنبية أو قوات موالية لها".

10- بين الجيوش الوطنية وجيوش الدول الكافرة:

نعيد إلقاء الضوء على ثلاث تجارب تاريخية كانت المواجهة فيها بيْن الجيوش المحلية تحت قيادة دول فيها أنواع مِن المظالم ضد جيوش الكفار؛ فكيف كان التصرف في كل حالة؟

الحالة الأولى: "التتار - المماليك": وفي هذا نجد أن ابن تيمية -رحمه الله- قد تصدَّى لمن حاول المساواة بين التتار والمماليك، ومِن ثَمَّ رتَّب على هذا عدم مساعدة المماليك في تصديهم للتتار! فحفظ الله به مصر والعالم الإسلامي مِن شر "التتار"، وليس المقصود هنا بيان أن الواقع المعاصِر ينطبق بحذافيره على "المماليك والتتار"، لكن النسبة هي هي تقريبًا.

الحالة الثانية: "الحملة الفرنسية - المماليك": قد ذكر الأستاذ "محمود شاكر" -رحمه الله- كيف استثمر المستشرقون موقف المشايخ مِن مظالم "المماليك"، وأقنعوهم بعدم مساعدة "المماليك" في التصدي للحملة الفرنسية!

الحالة الثالثة: "الثورة العربية بيْن الدولة العثمانية وإنجلترا": ورأينا كيف تورط "الشريف حسين" -أملاً في التخلص مِن اضطهاد الدولة العثمانية للعرب- في أن يمكِّن للإنجليز في فلسطين، ومِن بعدهم اليهود! كما ساهم بصورة جدية في وجود "سايكس - بيكو".

والسعيد مِن وعظ بغيره...